الثلاثاء، 21 أبريل 2020

تاريخ القانون والانسان البدائي والمدونات


مقدمة
لاشك أن علة تكوين المجتمع البشري قد استمدت جذورها من ذات الإنسان التي انبثقت عن غريزة التجمع والحفاظ علي الحياة الاجتماعية.
فلإنسان مدني بطبعه يصبو دائما إلي الحياة مع غيرة من بني البشر علي أن غريزة حب الاجتماع هذه ليست راجعة في الواقع إلي حب الإنسان في المجتمع بقدر ما هي راجعة إلي أمله في الحصول علي فوائد ومنافع من اجتماعه بغيره : فقدرة الفرد وحده لا شك قاصرة عن تحصيل حاجته من الغذاء وتوفير الحماية اللازمة لممارسة حياته الطبيعية.
والإنسان في حياته مع الجماعة لا يستطيع أن يعيش كما يشاء دون ما ضابط أو قيد فالحياة لا يمكن أن تنتظم في الجماعة إذا لم يتقيد حق كل فرد فيها بما يتحدد به واجبه من حدود يستلزمها الصالح العام ولو ترك لكل فرد أن ينظم علاقته بالآخرين وفق رغبته ومشيئته حتي لو تعارض ذلك مع رغبات الآخرين لعمت الفوضي ولانتهي الأمر إلي تحكم الأقوياء في الضعفاء ومن هنا نشأت الضرورة إلي قيام نظام ينزل الأفراد علي حكمه ويلتزمون بطاعته وهذا النظام هو ما نطلق عليه في وقتنا الحاضر أسم "القانون".
وقد درج الفقهاء علي تعريف القانون بأنه "مجموعة القواعد العامة المجردة التي تنظم العلاقات الاجتماعية والتي يلتزم الأفراد بإتباعها خشية الجزاء الذي توقعه السلطة العامة علي المخالف" ويتبين من هذا التعريف أن القانون يتميز عن غيره من قواعد السلوك بعنصر الجزاء الذي توقعه السلطة العامة علي المخالف عند الاقتضاء فقواعد الدين والأخلاق والمجاملات تهتم كقواعد القانون بتنظيم سلوك الأفراد في المجتمع ولكنها لا تعتبر قواعد قانونية لأن الأفراد ليسوا مجبرين علي إتباعها ولا يترتب علي مخالفتها سوي تأنيب الضمير أو لوم الناس وسخطهم كذلك فإن جزاء مخالفة أوامر الدين أو نواهيه جزاء أخري مؤجل ما لم يكن ما يأمر به الدين أو ينهي عنه قاعدة قانونية في نفس الوقت فعندئذ تستتبع المخالفة توقيع جزائين أحدهما جزاء دنيوي توقعه السلطة العامة والثاني جزاء مؤجل للآخرة وهكذا فإن الفرق بين قواعد القانون وقواعد الأخلاق والمجاملات والدين إنما هو فرق في البيعة والجوهر وليس مجرد اختلاف في الشكل أو المظهر فقواعد الأخلاق تستهدف الكمال الداخلي للإنسان ومن ثم تفرض العدل وتزيد عليه اقتضاء الإحسان مثال ذلك قاعدة "ادفع السيئة بالحسنة" ومقتضاها عكس القانون الجنائي وهو مقابلة السيئة بالعقاب ويخضع لها الإنسان طواعية والجزاء الذي يترتب علي مخافتها جزاء معنوي يتمثل في تأنيب الضمير أو لوم الناس أما قواعد القانون فإنها تستهدف إقامة النظام الاجتماعي ولذلك فإن جزاء مخالفتها مفروض من الدولة.
نطاق علم القانون
ولما كان القانون يهتم بالإنسان وسلوكه داخل المجتمع فإنه يعد لذلك من العلوم الاجتماعية مثله مثل الأخلاق والاجتماع والاقتصاد والدين ... إلخ.
فهذه العلوم تدور كلها حول دراسة العلاقات والصلات المختلفة بين الأفراد باعتبارهم أعضاء في الهيئة الاجتماعية ولكن لكل علم منها نطاقه الخاص فما كان من العلاقات الاجتماعية متعلقا بالأمور المادية من حيث البحث عن القوت ووسائله وإنماء الثروة دخل في علم الاقتصاد وما كان منها متصلا بالنفس البشرية وتهذيبها وتقويمها كان من نصيب علمي الأخلاق والدين وما كان منها خاصا بظواهر المجتمع القانونية أي بالصلات والروابط التي تترتب عليها حقوق ووجبات تنفذها السلطة العامة اختص به علم القانون.
ولكن هل يمكن اعتبار القانون علما بالمعني الصحيح؟ كان الفقهاء الرومان ينظرون إلي القانون علي أنه "فن" وليس بعلم فالقانون في نظرهم هو " فن الخير والعدل.
أما في العصر الحديث فإن الإجابة علي هذا السؤال تتوقف دون شك علي المعني الذي نعطيه لكلمة "علم": فإذا كنا نقصد بهذه الكلمة معناها الضيق أي تلك الدراسات أو الأبحاث التي تنصب علي بعض الظواهر الخاضعة لقانون الحتمية أو الجبرية بغية استخلاص قوانين السببية التي تربط بينها أو النظريات التي تفسرها فإن القانون لن يصدق عليه وصف "العلم" إلا في جانب ضئيل جدا منه إما إذا كنا نقصد بكلمة "علم" كل مجموعة من المعلومات مدروسة ومنظمة ففي هذه الحالة يمكننا أن نقرر بأنه يوجد علم للقانون علي غرار العلوم الأخري.
ويهتم علم القانون بدراسة القانون من حيث ماضيه ومستقبله فالقانون في كل أمة من الأمم لا يعدو أن يكون سلسلة متصلة الحلقات يتصل ماضيه بحاضرة كما يعتبر حاضره بداية الطريق إلي مستقبله وقد أثبتت البحوث التاريخية أن الشرائع أو النظم القانونية وإن اختلفت في عصر من عصورها التاريخية فإن قواعدها تتصل في عصورها اللاحقة بما تقدمها من عصورها السابقة وأن كل عصر من هذه العصور يحمل في طياته أسباب التطور الذي نشاهده في العصر التالي ولذلك فإن الدراسة القانونية السليمة لابد وأن تشمل القانون في مراحله الثلاث: ماضيه وحاضره ومستقبله.
ودراسة القانون في حاضره هي ما يطلق عليه اسم "القانون الوضعي" أما دراسة القانون في ماضيه فيطلق عليه اسم "تاريخ القانون" ويطلق أخيرا علي الدراسة التي تهتم بالقانون بالنسبة لمستقبله اسم "علم التشريع" أو "السياسة الشرعية ".
1- القانون الوضعي:
وهو القانون المطبق فعلا في الوقت الحاضر في منطقة معينة أو علي شعب معين ومثال ذلك القانون الوضعي الفرنسي والقانون الوضعي المصري ... إلخ
ويختص هذا الفرع من فروع علم القانون بشرح النصوص وبيان أحكامها وتحديد الآثار المترتبة عليها ومجال تطبيقها علي الحالات الفردية المختلفة ولذلك تسمي هذه الدراسة التفصيلية لفروع القانون.
2- تاريخ القانون:
ويهتم هذا الفرع بدراسة القانون في ماضيه حيث يتعقب المصادر التي أسهمت في تكوين القاعدة القانونية والدور الذي أسهم به كل منها والتطورات التي مرت بها عبر العصور المتعاقبة حتي وصلت إلي صورتها الحالية كما يتتبع النظم القانونية في أدوارها التاريخية المختلفة بغية الوقوف علي أسباب نشأتها وسر نموها أو تحولها أو زوالها ومدي ما أحدثه التطور الاجتماعي والاقتصادي من أثر في تطور تلك النظم واستخلاص المبادئ التي خضعت لها في تطورها وأثر تلك المبادئ علي الشرائع المختلفة ثم يبين كيف تأثرت الشرائع الحديثة بالشرائع القديمة وما هو مقدار هذا التأثر.
وقد أصبح لهذا النوع من الدراسة المكان الأول في الأبحاث القانونية نظرا لما ينطوي عليه من قيمة كبري فقد أظهرت الأبحاث التاريخية الحديثة بعد المدي الذي ذهب التماثل الاجتماعي بين الشعوب المختلفة خلال أدوار حياتها في عهد تكوينها وفي مراحل تطورها وفيما واجهته من الصعوبات والظروف والأحوال الاجتماعية عصرا بعد عصر وفيما اتخذته من الوسائل لعلاجها وتنظيمها وضبطها ومن ثم فلم يعد كافيا أن يتجه البحث الفقهي في كل أمة من الأمم إلي دراسة قانونها الوضعي وإنما يجب أن تتسع دائرة هذا الجهد العلمي بحيث يتناول هذا القانون الوضعي لا باعتباره وحدة مستقلة خاصة وإنما باعتباره كذلك جزء من مجموع تشترك فيه شرائع المجتمع الإنساني كل منها بنصيب فالقوانين اللاتينية الحديثة – علي سبيل المثال – كالقانون المدني الفرنسي والإيطالي والأسباني قد استمدت أكثر مبادئها من الشريعة الرومانية القديمة المدينة بدورها إلي الشريعة المصرية القديمة وقد قيل بحق بأن كل ما اشتمل عليه قانون الألواح الإثني عشر مما يصح اعتباره قاعدة قانونية مقتبس من القوانين المصرية القديمة التي تأثرت إلي حد بعيد كما تدل علي ذلك البحوث العلمية بشريعة حمو رابي وأن هذه الشريعة استمدت أصولها من الشرائع السومرية.
وتزداد أهمية هذه الدراسة يوما  بعد يوم في نظر علماء القانون نظرا لما لمسوه كذلك من أن بعض النظم القانونية الحالية –حتي داخل إطار الشريعة الواحدة– يعتبر يهذيبا لنظم سابقة وأن البعض الآخر يحمل في ثناياه الكثير من النظم القانونية القديمة ولذلك لا يمكن فهم النظم الحالية علي وضعها الصحيح إلا في ضوء ما مرت به من تطورات وتعديلات.
3- علم التشريع:
ويطلق عليه اسم السياسة الشرعية: ويهتم بدراسة القانون بالنسبة لمستقبله فالقانون علم متطور يتغير حسب مقتضيات الحياة وحاجات الناس ومن ثم أصبح ضروريا أن يتدخل المشرع لتعديل القواعد القانونية أو إلغائها كلما أصبحت لا تتمشي مع روح العصر أو لا تحقق حاجة المجتمع وعلم التشريع هو الذي ينير الطريق أمام المشرع فيبين له التغير الذي حدث في المجتمع ومداه والسبيل الذي يجب عليه أن يسلكه في تعديل القواعد القانونية حتي يأتي التعديل الجديد متمشيا مع حاجات المجتمع ويسترشد علم التشريع في ذلك كله بالتشريعات الأجنبية السائدة في المجتمعات الأخري خاصة تلك التي تتشابه في ظروفها مع المجتمع الذي يراد تعديل نظامه القانوني فالبحث المقارن يعتبر أفضل السبل للوقوف علي مواطن الشبه ومواضع الخلاف بين شرائع الأمم الحاضرة وعلي مظاهر النقص في شريعة أمة ما من حيث تمشيها مع تطور المدنية الحديثة ومن حيث مبلغ ما قدمته من المعونة في ميدان العلم القانوني العام.
فالسياسة الشرعية إذن هي التي تحدد مدي حاجة المجتمع لقوانين جديدة وذلك عن طريق نقد القوانين القائمة وتحديد أوجه النقص فيها واقتراح الحلول اللازمة لسد هذا النقص ثم تدعو المشرع إلي التدخل باعتباره السلطة الرسمية الوحيدة في المجتمع التي تملك سن القوانين أو تعديلها أو إلغائها.
تلك هي الفروع الثلاثة التي تكون نطاق علم القانون وسوف تنصب دراستنا علي الناحية التاريخية فقط أي علي تاريخ القانون فما هو نطاق هذه الدراسة وما هي الغاية التي ترمي إليها.
نطاق دراسة تاريخ القانون:
ترمي دراسة تاريخ القانون من جهة إلي دراسة مصادر القانون ومن جهة أخري إلي دراسة تاريخ النظم القانونية.
1- تاريخ مصادر القانون (التاريخ الخارجي للقانون):
ويجدر بنا بادئ ذي بدء أن نحدد المقصود بكلمة " مصادر القانون " حتي نقف علي المعني الحقيقي الذي تنصرف إليه عناية الباحث في تاريخ القانون ذلك أن كلمة " مصدر " تنصرف في اللغة القانونية إلي أحد معان ثلاثة:
المصدر التاريخي للقانون المصدر المادي أو الموضوعي للقاعدة القانونية والمصدر الرسمي للقانون.
أما المصدر التاريخي للقانون :
فالمقصود به هو الأصل التاريخي الذي استقي منه القانون الوضعي بعض أحكامه وفي هذا المعني يمكن أن يقال – علي سبيل المثال – إن القانون الفرنسي والشريعة الإسلامية يعتبران المصدر التاريخي لكثير من أحكام القانون المصري الحالي وأن القانون الفرنسي والعرف والقانون الكنسي والقانون الروماني يمثلون المصدر التاريخي للقانون البلجيكي.
ويقصد بالمصدر المادي أو الموضوعي جميع العوامل أو العناصر التي ساهمت في تكوين القانون وتختلف هذه العوامل من مجتمع لآخر تبعا للمفهوم الديني أو الفلسفي السائد فيه: فهي قد تكون متمثلة في قوي خفية خارقة للطبيعة أفكار دينية فكرة العدالة المساواة مصلحة المجتمع عوامل جغرافية اقتصادية سياسية نفسية ... إلخ بالإضافة لقوانين العصر السابق والقوانين الأجنبية فهذه العوامل هي التي تجيب علينا عندما نتسأل: من أين أتت هذه القاعدة.
ويقصد بالمصدر الرسمي للقانون الطريق المعتمد الذي يكسب القاعدة القانونية صفة الإلزام فقد تنشأ القاعدة القانونية نتيجة اعتياد الناس علي سلوك معين فترة طويلة من الزمن وعندئذ يكون العرف هو المصدر الرسمي للقاعدة القانونية وقد يكون هذا المصدر هو الفقه الذي تكون من استنباط الحلول القانونية التي يمكن تطبيقها علي الحالات الفردية أو القضاء الذي استقرت عليه أحكام المحاكم في مجتمع من المجتمعات ... إلخ.
والمصدر بهذا المعني الأخير هو الذي ينصرف إليه اهتمام الباحث في تاريخ القانون ويكمن الغرض من دراسته في بيان أهمية كل مصدر من تلك المصادر ( التشريع العرف القضاء الفقه الدين) والدور الذي أسهم به في تكوين القواعد القانونية عبر العصور المتعاقبة وبعبارة أخري فإن دراسة تاريخ الصادر تهدف إلي بيان المظاهر والأوضاع المختلفة التي تشكلت بها القواعد القانونية في مختلف العصور التاريخية ويطلق علي هذا النوع من الدراسة اسم " التاريخ الخارجي للقانون ".
2- تاريخ النظم القانونية ( التاريخ الداخل للقانون ):
من الصعوبة بمكان أن نجد تعريفا جامعا لماهية " النظام القانوني " ولكن يمكن القول بصفة عامة بأنه عبارة عن " مجموعة من القواعد القانونية تكتنف أنواعا من العلاقات الاجتماعية تستهدف تحقيق غرض عام مشترك ".
مثال ذلك نظام الزواج نظام الملكية نظام التعاقد نظام الحكم ... إلخ.
ويمكن كذلك الارتفاع بمجموعة من النظم التي يجمعها هدف واحد إلي نظام أعلي : فالزواج والطلاق والنفقة بين الأقارب والميراث ... إلخ تكون كلها نظاما واحدا يطلق عليه " نظام الأسرة " وقد يمكن الصعود بالتنظيم إلي الوصول إلي نظرية عامة تجمع كل النظم السابقة وغيرها في نظام أعلي هو " نظام القانون الخاص " وكذلك الحال إذا ما نظرنا إلي " نظام القانون العام " الذي يحتوي علي كثير من النظم التي تمس البنيان السياسي العام للدولة ومن الجمع بين نظام القانون الخاص ونظام القانون العام يتكون النظام القانوني العام للدولة.
وتعتبر دراسة تاريخ النظم " دراسة ذاتية " للقواعد القانونية بمعني أنها تتناول هذه القاعدة – سواء كانت متعلقة بالقانون الخاص أو بالقانون العام – في حد ذاتها وبغض النظر عن مصادرها فالباحث هنا لا يلقي اعتبارا معينا إلي المظاهر والصور التي تشكلت بها القاعدة القانونية ولذلك فقد أطلق علي هذا النوع من الدراسة اسم (التاريخ الداخلي للقانون).
علي أن البحث في تاريخ النظم لا يتوقف عند مجرد تصنيف النظم القانونية وإثبات التطورات التي مرت بها هذه النظم وتعقبها خلال العصور المختلفة وإنما يرمي في المقام الأول إلي الوقوف عل حقيقة العوامل التي أدت إلي نشأة هذه النظم وإلي تطورها أو وجودها وزوالها وذلك يتطلب بالضرورة البحث في كافة الظروف ومختلف المؤثرات التي تأثرت بها القاعدة القانونية.
فالقانون – كما يقرر بحق بعض الباحثين – في أي عصر من العصور وعند أي شعب من الشعوب لم يكن حادثة من حوادث المصادفة أو نزعة عرضية من نزعات المشرع إنما هو وليد ظروف التاريخ وثمرة تطور المجتمع ونتيجة لعوامل مختلفة من سياسة واقتصادية ودينية وفكرية متصلة الحلقات متدرجة مع سنة التقدم الإنساني.
فالباحث في تاريخ النظم يجب عليه إذن ألا ينظر إلي القانون نظرة مجردة باعتباره وحدة ذات كيان مستقل قائم بذاته وأن يدرسه من خلال كافة الظروف والمؤثرات التي تحيط بالمجتمع الذي نشأ فيه سواء كانت هذه الظروف اجتماعية أو اقتصادية أو دينية أو سياسية أو فكرية وعقائدية وإلا فقد البحث كل صبغة علميه له ويصبح مجرد وصف أو تقرير للواقع الذي لا ينكره أحد: إذ من الثابت قطعا أن القانون عند أي شعب من الشعوب لا يدوم علي وتيرة واحدة ومنهاج مستقر وإنما يتطور علي مر الأيام والأزمنة وينتقل من حال إلي حال وقد فطن إلي تلك الحقيقة العلمية عالم الاجتماع الكبير " ابن خلدون " عندما قرر أن الباحث في علم التاريخ يحتاج إلي " العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والإعصار في السير والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الأحوال والإحاطة بالحاضر من ذلك ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بين ما بينهما من الخلاف وتعديل المتفق منها والمختلف والقيام علي أصول الدول والملل ومبادئ ظهورها وأسباب حدوثها ودواعي  كونها وأحوال القائمين بها وأخبارهم حتي يكون مستوعبا لأسباب كل خبرة ".
وفي حدود الإطار العام الذي حددناه آنفا فإن دراسة تاريخ القانون قد تنصب علي تاريخ قانون أمة معينة من الأمم كالقانون المصري والقانون العراقي والقانون الفرنسي ... إلخ وقد تنصب علي تاريخ القانون لدي سائر الأمم دون التقيد بأمة معينة بالذات وفي هذه الحالة الأخيرة نكون أمام دراسة عامة مقارنة لجميع الشرائع التي عرفها المجتمع الإنساني في عهد تكوينه وفي مراحل تطوره بغية الوقوف علي مواطن الشبه ومواضع الخلاف بين هذه الشرائع المختلفة ومدي تأثرها ببعضها ويتناول البحث المقارن دراسة هذه الشرائع كما سبق القول لا باعتبارها وحدة مستقلة بذاتها بل باعتبارها جزءا من مجموع تشترك فيه شرائع المجتمع الإنساني كل منها بنصيب وسوف تنصب دراستنا هذه العام علي دراسة تاريخ القانون بصفة عامة أي لدي سائر الأمم ودون التقيد بأمة معينة.
أهمية دراسة تاريخ القانون:
كثيرا ما تعرض الباحثون في تاريخ النظم القانونية إلي إبراز أهمية هذه الدراسة باعتبارها أداة للوقوف علي مراحل التطور التي مرت بها الشرائع القديمة والتغيرات التي طرأت عليها خلال العصور المتعاقبة حتي وصلت إلي حالتها المعاصرة ووسيلة نتعرف بها علي مقدار الأثر الذي أحدثته تلك الشرائع في تكوين الشرائع الحالية وقيمة الميراث القانوني الذي آل إلي الأمم الحديثة من الأجيال السابقة وعامل من عوامل الثقة الاجتماعية.
1- فهذه الدراسة تعطي فقهاء المستقبل نماذج يرون فيها كيف أن النظم القانونية ترتبط عند سائر الشعوب عبر تاريخها الطويل بالنظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية برابطة لا انفصام لها وكيف أن القانون باعتباره وليد الفكر البشري يختلف باختلاف البيئة والجيل فلكل شعب ولكل عصر نظم قانونية تتناسب من  حيث الرقي والانحطاط مع المستوي الاجتماعي الذي وصلة إليه الجماعة وتتفق والفكر السائد في ذلك العصر.
وبذلك يكتسب الفقيه أو المشرع كل في مجاله الخبرة من عبر التاريخ وتجاربه فيدرك أن القانون يجب أن يكون أداة مرنة تستجيب لظروف الحياة الاقتصادية والاجتماعية التي تتغير باستمرار ولا تثبت علي حال وبخاصة في فترات يسرع التاريخ فيها خطاه مع تقدم التجارة وتطور الصناعة وزيادة الاكتشافات العلمية.
2- أضف إلي ذلك أن النظم القانونية الحالية إنما تعتبر تهذيبا لنظم سابقة كما أن بعضا من هذه النظم يحمل في ثناياه الكثير من معالم النظم القانونية القديمة من ذلك مثلا أن نظام الإكراه البدني لتنفيذ الحكم بالتعويض المأخوذ به في بعض التشريعات الوضعية هو في الحقيقة أثر تاريخي تمتد جذوره إلي القوانين القديمة وخاصة القانون الروماني الذي أباح للدائن أن يجس المدين أو يبيعه خارج حدود روما إذا عجز عن الوفاء بدينه كذلك يفرق القانون الوضعي بين الحق العيني والحق الشخصي وهذه التفرقة لا يمكن فهمها جيدا إلا بالرجوع إلي القانون الروماني حيث ولدت التفرقة وتطورت بالشكل الذي وصلت به إلينا.
وما يصدق علي نظام الإكراه البدني والتفرقة بين الحق العيني والحق الشخصي يصدق علي كثير من النظم المطبقة في الوقت الحاضر فهذه النظم لها جذور تاريخية تمتد إلي بعض النظم القديمة وتلك النظم القديمة أخذت تتطور وتتعدل بعد نشأتها بما يلائم حاجة المجتمع الذي تحكمه حتي وصلت إلينا بحالتها الحاضرة ولذلك فإنها يمكن فهم النظم المعاصرة فهما صحيحا وسليما إلا علي ضوء ما مرت به عبر رحلة الزمن الطويلة من تطورات وتعديلات فتاريخ الشيء يحوي من الحقائق ما يفسر حاضره.
3- وضلا عن ذلك فإن دراسة تاريخ القانون تساهم في تنمية الملكة القانونية لدي المشتغلين بالقانون فلو أن هؤلاء اقتصرت مهمتهم علي إيجاد الحلول للمشاكل التي تثور عند تطبيق القانون لترتب علي ذلك أن تقف مداركهم عند حد المنازعات اليومية وهذا يؤدي إلي جمود ملكاتهم القانونية.
فإذا ما تغيرت الظروف والأحوال الاجتماعية وأصبحت القوانين الوضعية غير ملائمة للتطور الاجتماعي الجديد تعذر عليهم استنباط الحلول القانونية المناسبة وعجزوا عن مجاراة روح العصر وبذلك تصاب القوانين بالركود والجمود.
أن التحليل التاريخي يؤدي إلي نتائج علمية تتمثل في الكشف عن أسباب الظواهر والوقوف علي القواعد التي تحكم نشأتها وتسير تطورها وذلك بقصد استخلاص ما يحتمل أن يحدث من تطور في النظم مستقبلا فإذا كان الماضي يفسر الحاضر فإن الحاضر بدوره يمهد للمستقبل ومن ثم فإن دراسة تاريخ النظم القانونية تساهم في إعداد رجل القانون ذي الثقافة الواسعة وتجعله قادرا علي شرح القواعد القانونية وتأصيلها ومعرفة سيرتها وتطورها عي مر الزمان كما تمنحه القدرة علي التمييز بين النظم القانونية لمعرفة الصالح منها من الفاسد: ففي كل شريعة من الشرائع توجد قواعد تقادم عليها العهد وأصبحت غير ملائمة لحالة المجتمع وتستحق لذلك الإلغاء وأخري ناشئة تصبح صلاحيتها ولكنها ما زالت في المهد ومن ثم تستحق المزيد من العناية حتي تستقر وتدعم وتاريخ القانون هو الذي يوسع مداركنا ويمنحنا القدرة علي التمييز بين الصالح والفاسد من هذه النظم والحكم عليها حكما صحيحا مستندا إلي تجارب الماضي كما يوفق بين رغبتنا الشديدة  في المحافظة علي التقاليد وحاجاتنا الملحة إلي الابتكار والتحديد.
4- وأخيرا فإن دراسة تاريخ القانون تعتبر عاملا من عوامل الثقافة الاجتماعية فمن المعروف أن لكل أمة من الأمم شريعة وأن هذه الشرائع تختلف وتتباين بتباين الظروف السياسية والاقتصادية والعوامل التاريخية والجغرافيا فالقانون هو المظهر الاجتماعي لأي أمة من الأمم يتأثر بمؤثراتها قوة وضعفا وتمتد إليه أسباب حياتها وعوامل فنائها ومن ثم فإن في دراسة تاريخها القانوني دراسة لحالتها الفكرية وتتبع لأدوار حياتها الاجتماعية والسياسية.
منهج البحث:
سنقسم دراستنا لتاريخ النظم القانونية والاجتماعية إلي قسمين: نخصص الأول منهما لبحث نشأة القانون لدي الجماعات البشرية الأولي والتطورات التي مر بها غبر رحلة الزمن الطويلة حتي توصل الإنسان إلي كتابته في مجموعات قانونية والعوامل التي ساعدت علي ذلك التطور والوسائل أو الأساليب التي استعين بها لإحداث هذا التطور أما القسم الثاني فسوف نخصصه لدراسة نشأة النظم القانونية وتطورها في بعض الشرائع القديمة.

القسم الأول في نشأة القانون وتطوره
تمهيد وتقسيم:
لم تبدأ العصور التاريخية إلا منذ أن عرف الإنسان الكتابة أي منذ ستة أو سبعة آلاف سنة تقريبا بالنسبة لشعوب حوض البحر الأبيض المتوسط وشعوب الشرق ومنذ ألفين أو ثلاثة آلاف سنة بالنسبة لشعوب أوربا ولكن هذه العصور التاريخية لا تمثل في الحقيقة إلا جزءا يسيرا من حياة البشرية فقد دلت الأبحاث الجيولوجية وما عثر عليه العلماء في الكشوف الأثرية علي أن عمر الأرض منذ أن أصبحت جسما منفصلا عن الشمس يرجع إلي 3000 أو 2000 مليون سنة وأن الإنسان قد ظهر علي الأرض منذ حوالي نصف مليون سنة وقد قسم علماء الجيولوجيا هذه الفترة إلي عصور ثلاثة ويعتمد هذا التقسيم علي ما قاموا به من أبحاث في طبقات القشرة الأرضية وما عثروا عليه من بقايا الإنسان ومن عظام وأدوات متحجرة.
1- عصر الجليد:
وهو العصر الذي كانت فيه القشرة الأرضية مغطاة بطبقة كثيفة من الجليد وبمرور الزمن بدأ الجليد يتقهقر نحو قطبي الكرة الأرضية وقد استعمل الإنسان في هذا العصر قطع حجارة الصوان كما وجدت في الطبيعة ليدافع بها عن نفسه ولقضاء أغراضه المختلفة.
2- العصر الحجري:
ويتميز بتراجع الجليد نهائيا إلي القطبين وفي هذا العصر استعمل الإنسان أدوات صنعها بنفسه من الحجارة وينقسم هذا العصر إلي قسمين: العصر الحجري القديم والعصر الحجري الحديث ويمتاز هذا العصر الأخير بأن الإنسان توصل فيه إلي صقل الحجر وتهذيبه لعمل الأدوات اللازمة له في الحياة ويقدر علماء الآثار أن العصر الحجري الحديث ازدهر في آسيا حوالي 10.000 ق. م. وفي أوروبا حوالي سنة 5000 ق. م. ويطلق العلماء علي الفترة التي توسطت العصرين السابقين اسم " العصر الحجري الوسيط ".
3- عصر استعمال المعادن:
ويبدأ حوالي سنة 4000 ق. م. وفي هذا العصر استعمل الإنسان المعادن وأخذ يستفيد منها بعد طرقها وتحويرها بواسطة النار وينتهي هذا العصر وقت أن توصل الإنسان إلي اكتشاف الكتابة وبدأ يدون بها أفكاره إذ بهذا الاكتشاف الخطير تبدأ العصور التاريخية.
أما علماء الاقتصاد فيقسمون عصور ما قبل التاريخ إلي ثلاثة علي النحو التالي:
1- عصر الوحشية: عصر جامعي القوت:
حيث كان الإنسان يعتمد اعتمادا تاما علي ما توجه به الطبيعة: فكان يلتقط الثمار ويجمع الفاكهة من الطبيعة ويقوم بقنص الحيوانات وصيد الأسماك من الأنهار ويطلق بعض العلماء علي هذا العصر اسم " عصر جامعي القوت " وهو يقابل في التقسيم الجيولوجي عصر الجليد والعصر الحجري القديم.
2- عصر الهمجية أو البربرية:
وفيه اهتدي الإنسان إلي الزراعة وتربية الماشية ولذلك يطلق عليه البعض اسم " عصر الزراعة " كما استخدم الحجارة في بناء مسكنه ويقابل هذا العصر في التقسيم الجيولوجي العصر الحجري الحديث ومعظم عصر استعمال المعادن.      
 3- عصر المدنية:
وفيه ظهرت الصناعة والفنون فبدأ الإنسان يحول المواد الأولية إلي أشياء مصنوعة مستعينا في ذلك بوسائل صناعية من ابتكاره في هذا العصر عرف الإنسان التجارة أيضا كما اهتدي إلي الكتابة وهذا العصر يقابله في التقسيم الجيولوجي عصر استعمال المعادن.
وقد عني الباحثون في تاريخ القانون وفي تاريخ الأجناس البشرية بدارسة الحالة الأولي التي كانت عليها الجماعات البشرية من الوجهتين الاجتماعية والقانونية في عصور ما قبل التاريخ
وذلك بغية استجلاء الحالة التي كانت عليها هذه الجماعات قبل أن تنشأ فكرة القانون بين الناس وقبل أن تخضع نفوسهم لقواعد معينة تحدد سلوكهم وتضبط ما بينهم من العلاقات وقد جاءت أبحاث هؤلاء العلماء لكي تؤكد بعض الحقائق منها:-
أولا:أن الإنسان بغريزته لا يحب العيش في عزلة فهو " حيوان اجتماعي " لا يعيش إلا في مجتمع من بني جنسه خوفا من العزلة وابتغاء لما تجلبه إليه حياته مع الآخرين من منافع وفوائد وقد عبر العلامة ابن خلدون عن هذا المعني بقوله : " إن الاجتماع الإنساني ضروري ويعبر الحكماء عن هذا بقولهم الإنسان مدني بالطبع أي لابد له من الاجتماع الذي هو المدينة في اصطلاحهم وهو معني العمران وبيانه أن الله سبحانه خلق الإنسان وركبه علي صورة لا يصح حياتها وبقاؤها إلا بالغذاء وهداه إلي التماسه بفطرته وبما ركب فيه من القدرة علي تحصيله إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء غير موفية له بمادة حياته منه ولو فرضنا منه أقل ما يمكن فرضه وهو قوت يوم من الحنطة مثلا فلا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ وكل واحد من الأعمال الثلاثة يحتاج إلي مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددة من حداد ونجار وفاخوري هب أنه يأكل حبا من غير علاج فهو أيضا يحتاج في تحصيله حبا إلي أعمال أخري أكثر من هذه من الزراعة والحصاد والدراس الذي يخرج الحب من غلاف السنبل ويحتاج كل واحد من هذه إلي آلات متعددة وصنائع كثيرة أكثر من الأولي بكثير ويستحيل أن توفي بذلك كله أو ببعضه قدرة الواحد فلابد من اجتماع القدر الكثيرة من أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم فيحصل بالتعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف.
" وكذلك يحتاج كل واحد منهم أيضا في الدفاع عن نفسه إلي الاستعانة بأبناء جنسه لأن الله سبحانه لما ركب الطباع في الحيوانات كلها وقسم القدر بينها جعل حظوظ كثير من الحيوانات العجم من القدرة أكمل من حظ الإنسان فقدرة الفرس مثلا أعظم من قدرة الإنسان وكذا الحمار والثور وقدرة الأسد والفيل أضعاف من قدرته ولما كان العدوان طبيعيا في الحيوان جعل لكل واحد منها عضوا يختص بمدافعته ما يصل إليه من عادية غيره وجعل للإنسان عوضا من ذلك كله الفكر واليد فاليد مهيأة للصنائع بخدمة الفكر والصنائع تحصل له الآلات التي تنوب له عن الجوارح المعدة في سائر الحيوانات للدفاع : مثل الرماح التي تنوب عن القرون الناطحة والسيوف النائبة عن المخالب الجارحة والتراس النائبة عن البشرات الجاسية إلي غير ذلك مما ذكر جالينوس في كتاب منافع الأعضاء.
فالواحد من البشر لا تقاوم قدرته قدرة واحد من الحيوانات العجم سيما المفترسة فهو عاجز عن مدافعتها وحده بالجملة ولا تفي قدرته أيضا باستعمال الآلات المعدة للمدافعة وكثير الصنائع والمواعين المعدة لها فلابد في ذلك كله من التعاون عليه بأبناء جنسه وما لم يكن هذا التعاون فلا يحصل له قوت ولا غذاء ولا تتم حياته لما ركبه الله تعالي عليه من الحاجة إلي الغذاء في حياته ولا يحصل له أيضا دفاع عن نفسه لفقدان السلاح فيكون فريسة للحيوانات ويعاجله الهلاك عن مدي حياته ويبطل نوع البشر وإذا كان التعاون حصل له القوت للغذاء والسلاح للمدافعة وتمت حكمة الله في بقائه وحفظ نوعه فإن هذا الاجتماع ضروري للنوع الإنساني وإلا لم يكمل وجودهم وما أرادة الله من اعتمار العام بهم واستخلافه إياهم وهذا هو معني العمران.
ثانيا: أنه وإن كان الإنسان بطبيعته " حيوان اجتماعي " فهو كذلك  "حيوان نظامي " بمعني أنه يستشعر بغريزته ضرورة القواعد المنظمة وهذه الغريزة هي التي دفعت الناس بحكم الضرورة إلي إيجاد قواعد قانونية وضبط سلوكهم ومعاملتهم علي غرارها.
وعلي ذلك يمكننا القول بأن فكرة القانون جاءت مصاحبة لفكرة العيش في جماعة لا يمكن أن تستقيم دون أن يكون هناك قانون يحكمها ويضع المعايير الفاصلة بين مالها وما عليها ولما كان الإنسان لم يستطع منذ ظهوره أن يعيش منفردا فان ذلك يعني ان القانون بدا ظهوره مع بداية ظهور الإنسان علي الأرض.
الخلاصة إذن هي أن فكرة القانون قديمة قدم المجتمع ذاته ولكن ما هي المظاهر الأولي التي برزت بها فكرة القانون في المجتمع الإنساني وكيف تطورت هذه الفكرة عبر رحلة الزمن الطويلة ؟ وما هي الغاية التي يتجه إليها القانون في تطوره هذا ما سوف نوضحه بالتفصيل في البابين التاليين علما بأننا سنخصص الباب الأول لدارسة مراحل نشأة القاعدة القانونية أما الباب الثاني فسنخصصه لدراسة تطور القانون ووسائل أو أساليب هذا التطور .
الباب الأول
مراحل نشأة القانون
الفصل الأول: عهد القوة أو القضاء الخاص
المبحث الأول: حالة المجتمع في عصوره البدائية الأولي
المطلب الأول: الحالة الاجتماعية (الخلية الاجتماعية الأولي)
الفرع الأول: نظرية القبيلة
1-نظرية باخوفين:
وقد تعرض هذا العالم للأدوار التي مر بها نظام الأسرة في كتابه الذي نشر عام 1861 تحت عنوان حقوق الأم وهو يري أن الإنسان كان يعيش في بادئ الأمر في حالة شيوعية جنسية مما ترتب عليه اختلاط الأنساب وعدم إمكان الوقوف علي الأب الحقيقي للطفل فسبوا الطفل إلي أمه وهذا جعل للمرأة قدرا كبيرا لدي الجماعات البدائية بحيث كانت تمثل نفس المكانة التي يشغلها الرجل في الوقت الحاضر وهذا النظام الأموي يعتبر مرحلة وسطي بين مرحلة الشيوعية الجنسية السابقة عليه ومرحلة النظام الأبوي اللاحق عليه والذي استمر حتي اليوم ويقول باخوفين أن الانتقال من حالة الإباحية الجنسية إلي حالة الزواج الفردي مع استمرار نسبة الولد لأمه لم ينشأ عن تطور في حالة الإنسان بل كان مرجعه إلي تطور الأفكار الدينية ففي حالة الشيوعية الجنسية كان اختصاص الرجل بامرأة معينة مخالفا للتقاليد والعادات الدينية السائدة لدي الجماعة لأنه اعتداء علي حقوق الرجال الآخرين علي تلك المرأة ولكن المرأة كافحت في شجاعة وإصرار للتخلص من عار الشيوعية الجنسية وانتصرت في النهاية وتأكد انتصارها بتحول الأفكار الدينية في المجتمع واتجاهها نحو تشجيع نظام الزواج الفردي وما أن ظهر الزواج الفردي واستقر بين أفراد الجماعة حتي بدأت تتلاشي صورة استمر إلي وقتنا الحاضر.
2-نظرية ماك لينان:
وتعد نظرية هذا العالم الإنجليزي التي صاغها في كتابه الصادر عام 1865 تحت عنوان الزواج البدائي من أخصب النظريات التي صيغت لكي تحدد لنا أصل العلاقة بين المرجل والمرأة وكيف نشأت وتطورت ظاهرة الشيوعية الجنسية.
الظروف الاقتصادية الصعبة ودورها في تكوين المجتمعات البدائية :
فقد انطلق هذا العالم في بحثه مؤكدا أن الإنسان القديم كان يعيش منعزلا وأنه قد تلاقي مع أمثاله بطريق المصادفة فتألف من هذا التلاقي أول مجتمع إنساني قديم دون أن تشمل أفراده صلة عامة أو تربط بينهم قرابة حقيقية وقد وجد الإنسان في هذا المجتمع ملاذا يحميه من الأخطار ويستعين به في الحصول علي غذائه ولما كان الحصول علي الطعام صعبا فقد اضطرته قلة الطعام إلي وأد البنات لعدم قدرتهن علي توفير طعامهن بغير وساطة الرجال واكتفي بتربية فتيان أشداء كانت الجماعة في أشد الحاجة إليهم سواء للدفاع عن كيانهم أو للحصول علي طعامهم في تلك الحياة المحفوفة بالمصاعب والأخطار.
إخلال التوازن بين الجنسين وسيادة الشيوعية الجنسية :
وقد ترتب علي وأد البنات أن أصبح عدد النساء أقل بكثير من عدد الرجال مما أدي إلي اختصاص عدة رجال بامرأة واحدة وبعبارة أخري أصبحت النساء بسبب ندرتهن مشاعا للرجال.
ولما توالي قتل النساء ونقص عددهن في الجماعة اضطر الرجال إلي خطف النساء من الجماعات المجاورة وبذلك نشأت علي مر الزمن عادة تحريم الاختلاط أو التزاوج بين امرأة ورجل من أفراد جماعة واحدة فلا تختار المرأة من بين أفراد الجماعة بل يتحتم أن تكون من جماعة أخري وتأصلت هذه العادة في النفوس حتي أصبحت تمثل عقيدة دينية راسخة يغضب الأجداد لمخالفتها.
نسب الولد لأمه وظهور نظام الأسرة الأمية :
ويقول ماك لينان إن هذه العادة قد أدت إلي جهالة نسب الولد إلي أبيه لأن المخطوفات من النساء كثيرا ما يتكرر خطفهن واسترجاعهن وهن حوامل ولهذا لم يكن هناك بد من أن ينسب الولد لأمه باعتبارها الأصل في تلك الحياة التي تسود فيها الشيوعية الجنسية وقد نشأ عن ذلك نظام الأسرة الأمية أي الأسرة التي يقوم كيانها علي الانتساب إلي الأم.
ظهور نظام زواج المشاركة الأخوي :
ومن الطبيعي في نظر ماك لينان أن النظام الأمي لم يقم في بادئ الأمر علي صلة الدم بين أزواج الأم لأن هؤلاء الأزواج لم تكن تربطهم صلة دموية واحدة غير أن ماك لينان يري أن هذه الحالة قد تطورت فيما بعد بتطور الأخلاق الإنسانية وتهذيبها إلي حالة أرقي إذ أصبح لكل مجموعة من الأقارب أو الأخوة امرأة يختصون بها جميعا وقد تمثل ذلك في نظام زواج المشاركة الأخوي والذي بموجبه أمكن نسبة الأطفال إلي تلك المجموعة المحدودة من الأخوة ثم ارتقي هذا النظام شيئا فشيئا حتي اعترف للأخ الأكبر ببعض الامتيازات إزاء أخوته ومنها حق انتساب الولد إليه وقد علل ذلك بأنه أكبر إخوته سنا وبالتالي كان أسبقهم في معاشرة المرأة مما يحتمل معه أن يكون الأولاد قد ولدوا منه.
ظهور نظام الأسرة الأبوية :
وعند نهاية مطاف التطور الأخلاقي والاقتصادي انتهي الأمر بأن استأثر الأخ الأكبر بزوجته وأضحي لكل أخ زوجة خاصة به وأصبح به وأصبح الأبناء ينتسبون إلي آبائهم الحقيقيين وبذلك نشأت الأسرة الأبوية ونشأت معها السلطة الأبوية.
من الزواج الفردي إلي نظام تعدد الزوجات :
وقد بدأ نظام الأسرة الأبوية بالزواج الفردي ثم تحول إلي نظام تعدد الزوجات بسبب هجر عادة قتل النساء بعد أن تيسر للإنسان الحصول علي غذائه بما صنع من أدوات ومعدات تغلب بها علي الحيوانات المفترسة وهان عليه اصطياد الحيوانات الأخري وبازدياد عدد أفراد القبيلة وتضامنهم في شن الغازات علي القبائل الأخري وسبي نسائها.
3- نظرية لويس مورجان L. Morgan :
يري لويس مورجان أن الجماعة الإنسانية الأ الظروف الاجتماعية وقد عرض نظريته هذه في كتابه المجتمع القديم الصادر سنة 1877 ونقطة البداية في نظره ممثلة في أن الجماعات البدائية كانت تعيش في حالة شيوعية جنسية : فالإنسان البدائي كان لا يتميز كثيرا عن الحيوان ومن ثم فقد كان الاتصال الجنسي ممكنا بين أقرب الأقارب مثل الأخ وأخته والرجل وأبنته وبمرور الزمن أصبح الزواج من داخل القبيلة قائما علي أساس زواج المشاركة أي تعدد الأزواج ثم انقسمت القبيلة إلي عدة وحدات تربطها صلة الدم من جهة الأم وهذه الوحدات هي ما يطلق عليه اسم العشائر وكان نظام العشيرة يقضي بتحريم الزواج بين الأشخاص الذين ينتمون إليها فالشخص الذي ينتمي إلي عشيرة معينة كان يحرم عليه الزواج من أحد أفراد تلك العشيرة ولكنه كان يلتزم بالزواج من أحد الأشخاص المنتمين إلي العشائر الأخري والداخلين في نطاق القبيلة وقد تطور نظام العشائر التي ينتمي أفرادها إلي الأم وحل محله نظام العشيرة القائمة علي رابطة الدم من جهة الأب وهذه العشيرة الأبوية هي التي وجدت لدي الرومان والإغريق وغيرهم من الشعوب القديمة وبمرور الزمن ظهر نظام الأسرة الأبوية التي تخضع فيه الزوجة والأبناء والرقيق لسلطة رب الأسرة المطلقة وبظهور نظام الأسرة الأبوية دخلت الجماعات القديمة في العصور التاريخية حيث نجد ذلك النظام سائدا لدي الشعوب الآرية والسامية.
حجج نظرية القبيلة :
خلاصة القول في نظرية القبيلة إذن هو أن الجماعة الإنسانية الأولي كانت عبارة عن جمع من الأفراد ضمته المصادفة أو الضرورة والمصالح المشتركة وأن هذه الجماعة قد تطورت من الإباحية الجنسية المطلقة إلي نظام الأسرة الأمية ومن هذا النظام الأخير إلي نظام الأسرة الأبوية الذي استمر قائما حتي عصرنا الحالي.
والواقع أن أنصار هذه النظرية لم يعثروا علي شعب بدائي واحد يعيش في حالة شيوعية جنسية كاملة ولكنهم اعتمدوا علي عادات بعض الشعوب القديمة وكذلك علي ما يوجد من عادات بعض الجماعات المتأخرة التي تعيش في العصر الحديث واعتبروها من آثار مرحلة الشيوعية الجنسية التي عاشتها المجتمعات البدائية من ذلك مثلا :
1-  عادة زواج الأخ من أخته التي كانت سائدة لدي كثير من الشعوب القديمة مثل مصر واليابان واليونان وغيرها.
2-  كذلك فإن نظام تعدد الأزواج مازال موجودا لدي بعض قبائل الإسكيمو وعند بعض القبائل الجبلية في الهند وعند سكان التبت من الفلاحين وبعض الجماعات من أفريقيا الشرقية ومن ذلك أيضا العادة الموجودة في التبت والتي تبيح لعدد من الأخوة الزواج من عدد من الأخوات بحيث تقوم الشيوعية الجنسية بين الطائفتين فهذه التقاليد التي تدل علي إباحية جزئية أو مقيدة ليست في نظر أنصار هذه النظرية سوي بقايا ورواسب لمرحلة كانت فيها الإباحية عامة ومطلقة.
3-  تتمتع المرأة لدي كثير من القبائل البدائية بمكانة ممتازة فتقوم بالدور الذي يقوم به الرجل في الأسرة الأبوية في المجتمعات المتمدينة مثال ذلك قبائل الطوارق في ليبيا وموريتانيا والجزائر والنيجر وتشاد إذ تعتبر المرأة سيدة الأسرة كما أن بعض قبائل هنود أمريكا الشمالية لازالت تتبع نظام النسب إلي الأم حتي اليوم.
نقد النظرية :
يبدو أن نظرية القبيلة عامة ونظرية ماك لينان بصفة خاصة قد تأثرت بنظرية التطور والارتقاء التي نادي بها العلامة داروين حوالي منتصف القرن التاسع عشر وتبناها أكثر علماء الاجتماع في انجلترا فهذه النظرية تقوم علي أساس قدرة انسان علي الارتقاء إلي مالا نهاية بفضل الانتقاء الطبيعي والجنسي الذي يضمن البقاء للأصلح ومن هنا فقد تصور ماك لينان أن الجماعة قد خضعت هي الأخري لفكرة التطور وصاغ نظريته علي النحو الذي عرضناه آنفا.
وقد أغرت نظرية القبيلة كثيرا من العلماء ولاقت قبولهم إلا أنها ما لبثت أن واجهت معارضة شديدة من بعض الفلاسفة وعلماء الاجتماع والباحثين في تاريخ الأجناس البشرية وفي طبائع الإنسان وعلي رأسهم الفيلسوف هربرت سبنسر الذي رفض التسليم بها.
1-  وربما كان النقد الأساسي الذي هدم صرح نظرية القبيلة هو أنها تقوم علي أسس خاطئة وتطور مفترض لا سند له من الحقيقة والواقع فالقول بأن المجتمعات البدائية كانت تئد البنات ليس صحيحا علي إطلاقه كما أن حالة الحرب المستمرة التي افترض أنها كانت تسود العلاقات بين الجماعات البشرية المتجاورة لا دليل عليها ففي كثير من الحالات كانت هذه العلاقات تتسم علي العكس بطابع ودي أضف إلي ذلك أن الشيوعية الجنسية التي تصور أنصار هذه النظرية وجودها لدي الجماعات البدائية ليست في الواقع سوي مجرد افتراض لا يستند إلا علي حالات نادرة وجدت بصفة شاذة في الجماعات البدائية المعاصرة.
2-  ومن ناحية أخري فإنه لو كانت الأسرة الأمية قد نشأت بسبب الشيوعية الجنسية لدي الجماعات البدائية لكان من المفروض أن توجد هذه الشيوعية الجنسية لدي الجماعات التي مازالت في أدني درجات التطور ولكن المشاهد أن بعض القبائل المتأخرة التي تعيش علي جمع القوت تسير علي النظام الأبوي مثال ذلك الأقزام البيجمي في وسط أفريقيا وقبائل البوشمن في صحراء كلهاري في جنوب أفريقيا وبالتالي فإن النظام الأموي لا ينهش دليلا علي وجود مرحلة سابقة من الشيوعية الجنسية.
3-  وأخيرا فإن هذه النظرية كما يقرر الباحثون في تاريخ الأجناس البشرية وفي طبائع الإنسان تضع النوع الإنساني في أول عهده في مرتبة أدني من النوع الحيواني بل أحط منه مرتبة وهذا التصور يتجاوز أقصي ما قد بلغه الإنسان من درجات الوحشية في بدء حياته.
الفرع الثاني
نظرية العشيرة التوتمية
ماهية التوتم والمقصود بالعشيرة التوتمية :
والعشيرة التوتمية هي عبارة عن جمع من الأفراد لا تربطهم قرابة حقيقية أو افتراضية وإنما تجمعهم صلة روحية تقوم علي اعتقاد الجماعة بأنها تولدت من توتم واحد أما التوتم فهو عبارة عن حيوان أو نبات تعتقد الجماعة أنه جدها الأعلي الذي تناسلت منه لذلك تتخذ منه شارة لها وتجعله موضع العبادة والتقديس لما يرجي منه من خير أو يخشي منه من شر فإذا اتخذت العشيرة من الذئب مثلا توتما لها فهذا يعني أنها تؤلف من فصيلة الذئاب وحدة اجتماعية وأسرة مشتركة ذات طبيعة واحدة وتنزل هذا الحيوان وما ترمز به إليه منزلة التقديس وتعتبره مصدرا لما ترجي من خير وحاميا يدفع عنها كل شر.
تضامن أفراد العشيرة :
والرابطة التي تربط أعضاء العشيرة أقوي من أية رابطة قائمة علي أساس وحدة المصالح المشتركة إذ أنهم متضامنون في حقوقهم وواجباتهم بمعني أنه إذا اعتدي علي أحد أفرادها هبت العشيرة كلها لنصرته ورد الإهانة بمثلها وإذا ارتكب أحدهم فعلا ضارا بالغير تحملوا المسئولية مجتمعين قبل ذلك الغير.
مركز الفرد داخل العشيرة :
ولم يكن للفرد داخل العشيرة كيان ذاتي فهو لا يختص بامرأة بعينها وإنما كانت النساء مشاعا بين الرجال ولم يكن يتمتع بحق الملكية الخاصة لأن الأموال تعتبر ملكا للعشيرة في مجموعها ولكن ليس معني ذلك أن الجماعة كانت تعيش في حالة فوضي فشيوخ العشيرة كانوا يتمتعون باعتبارهم ممثلي التوتم صاحب السلطان ببعض النفوذ الذي يخولهم إدارة أموال العشيرة وتصريف شئونها الداخلية والخارجية.
حجج النظرية :
وقد استند أنصار هذه النظرية علي ما هو موجود لدي بعض الجماعات البدائية الهمجية التي تعيش في العصر الحديث وعلي وجه الخصوص جماعات الاستراليين الأصليين وجماعات الهنود الحمر بأمريكا الشمالية وذلك بحجة أن تلك الجماعات تشبه إلي حد كبير الجماعات البدائية الأولي التي عاشت في العصور الأولي للبشرية كما استندوا أيضا علي ما كشفت عنه البحوث الأثرية في الدول ذات المدنيات القديمة ومنها مصر من أنها اتخذت كثيرا من الحيوانات والطيور آلهة لها.
نقد النظرية :
1-  وقد اعترض علي هذه النظرية بأنه ليس هناك ما يدل علي أن الشيوعية الجنسية كانت هي نقطة البداية في الجماعات البدائية أو أن هذه الجماعات كانت تجهل نظام الأسرة الأبوية ومن ثم فإنه لا يمكن الجزم بأن حالة الشيوعية الجنسية الموجودة لدي بعض القبائل في العصر الحديث ليست سوي امتدادا للحالة التي كانت عليها المجتمعات البدائية.
2-  ومن ناحية أخري فإنه من المتصور مادمنا في عالم الافتراض أن تكون هذه العشائر قد تكونت من اسر أجنبية لا تجمعها صلة القرابة وإنما تجمعها وحدة العبادة التي قامت داخل العشيرة علي وجود قوة عليا يختص بها التوتم ويشترك أفراد العشيرة في عبادتها.
الفرع الثالث
نظرية الأسرة
يتجه أكثر الباحثين في علم الحياة وعلم الاجتماع إلي القول بأن الأسرة الأبوية المكونة من الزوج والزوجة وأولادهما والتي تقوم علي رابطة الدم من جهة الذكور أو الخضوع لسلطة أب أو جد مشترك يدينون به بالولاء والطاعة كانت هي أول خلية اجتماعية وجدت في الجنس البشري وأن دائرة هذه الخلية قد اتسعت علي مر الزمن بازدياد النسل والتوسع في فكرة القرابة بتبني الغريب عنها وحماية اللاجئ إليها والنزيل عندها وعتق الرقيق حتي صارت عشيرة مكونة من عدة أسر ينتسب أفرادها إلي أصل واحد ثم تكونت القبيلة من انضمام عدة عشائر بعضها إلي بعض.
وقد اعتمد أنصار هذه النظرية علي دلائل تاريخية ومنطقية متعددة منها :
1-  ما ورد في كتابات قدماء الفلاسفة أمثال أرسطو وهوميروس من أن الأسرة الأبوية كانت هي الأساس الذي قامت عليه الدولة وقد بني أرسطو نظرته علي أساس أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بمفرده وأن اتحاد الجنسين ضروري لاستمرار البشرية وأن هذا الاتحاد يتطلب نظام خضوع تقوم عليه علاقة الزوج بزوجته والأب بأولاده والسيد باتباعه وأرقائه ويخلص من ذلك إلي أن القرية أو القبيلة تكونت من تجمع العائلات وأن الدولة قد تألفت من اجتماع عدة قري.
2-  ما ورد في التوراة خاصا ببيان عشائر بني إسرائيل التي انحدرت من أصل واحد مثل عشيرة يعقوب وعشيرة عيسو وكان عدد العشيرة الإسرائيلية يصل في بعض الأحيان إلي ثلاثمائة شخص وكان أعضاء هذه العشائر يعتقدون أنهم من دم واحد ويعتبرون أنفسهم أخوة وتقوم الرابطة بينهم علي أساس من التضامن الاجتماعي.
3-  ما كشفت عنه الأبحاث التاريخية من أن العشيرة كانت أصل بعض المجتمعات القديمة كالمجتمع الروماني والمجتمع الإغريقي.
4-  أنه ليس من المعقول أن تكون حالة الإنسان الاجتماعية في مستوي أقل من بعض الحيوانات الراقية التي تعيش في وحدات تقتصر كل منها علي الذكر وأنثاه وما يتولد منهما من صغار فهذه الأنواع من الحيوانات لم تعرف حالة الشيوعية الجنسية بل أن الذكر فيها يختص بأنثاه فلا يتصور إذن أن يكون الإنسان الفطري قد عاش في حالة إباحية جنسية لأن هذه الفكرة تتعارض مع غريزة الإنسان الطبيعية.
5-  إن النظريات الأخري لا تعتمد علي الحقيقة بقدر ما تعتمد علي الافتراض والتخمين فهذه النظريات تعتبر حالة بعض الجماعات الهجمية التي تعيش في العصر الحديث بمثابة حالة بدائية لكل الجماعات التي عرفتها الإنسانية متجاهلة أن الجماعات البدائية الحالية لم تبق جامدة منذ نشأتها دون تطور أو تغيير وأنه من الجائز أن تكون الحالة التي نراها عليها اليوم هي مرحلة نهائية لا بائية سبقتها مراحل عديدة تميزت بالرقي والكمال وانتهت بالتأخر والانحطاط كما أن كثيرا منها يقوم علي نظام الأسرة الأبوية وبعضها لا يعرف إلا نظام الزواج الفردي ومن هذه الجماعات أقزام أواسط إفريقيا مع أنهم من أحط الجماعات التي تعيش اليوم فالإباحية الجنسية ليست بالضرورة عنوان التأخر ولا الزواج الفردي عنوان التقدم.
6-  وأخيرا فإن هذه النظرية تتفق مع الأديان السماوية التي تؤكد أن الإنسان الأول قد بدأ حياته الاجتماعية بنظام الزواج الفردي وبالتالي كانت الأسرة الأبوية هي الخلية الاجتماعية الأولي عند فجر الوجود الإنساني.
الفرع الرابع
اتجاه الأديان السماوية
قصة الخلق في العهد القديم :
فقد ورد في العهد القديم قال الرب الإله ليس جيدا أن يكون آدم وحده فاصنع معينا نظيره فأوقع الرب الإله سباتا علي آدم فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحما وبني الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة وأحضرها إلي آدم فقال آدم هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي هذه تدعي امرأة لأنها من امرء أخذت لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونان جسدا واحدا ودعا آدم اسم امرأته حواء لأنها أم كل حي وصنع الرب الإله لآدم وامرأته أقمصة من جلد والبسهما وعرف آدم حواء امرأته فجلت وولدت قايين (قابيل) ثم عادت فولدت أخاه هابيل ومن الواضح أن العهد القديم يري أن الإنسان الأولي هو آدم وحواء وأن حواء عاشت زوجة لآدم وأن أولاد آدم كانوا ينسبون إليه فكانت الأسرة الأولي أسرة أبوية.
أصل البشرية في القرآن الكريم :
وتدل آيات القرآن الكريم كذلك علي أن الله سبحانه وتعالي خلق الإنسان من نفس واحدة وخلق منها زوجها وأن هذه النفس هي آدم عليه السلام وبالتالي فإن الجماعة الإنسانية الأولي لم تكن تعيش في حالة إباحية جنسية إذ لم تكن لآدم غير زوجة واحدة وبعبارة أخري فإن الجماعة الإنسانية الأولي قد عرفت منذ أن كتب لها الوجود علي ظهر البسيطة نظام الزواج الفردي يدل علي ذلك قوله تعالي في سورة النساء ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ) وقوله تعالي في سورة الحجرات (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) وقوله عز وجل في سورة الأعراف ( هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها ) ويبين لنا القرآن الكريم أن ذرية هذه الجماعة الإنسانية الأولي تدعي بني آدم أي تنسب إلي الأب وهو ما يؤكد أن الإنسان عاش نظام الأسرة الأبوية وأن هذا النظام هو فطرة الله التي فطر الناس عليها ولنتأمل الآيات التي يروي لنا فيها القرآن الكريم ما حدث بين قابيل وهابيل ولدي آدم حيث يقول الله سبحانه وتعالي ( واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين ) فهذه الآية صريحة في أن قابيل وهابيل كانا ينسبان إلي آدم وقد ذكر جمهور المفسرين أن سبب نزاع قابيل مع هابيل هو أن ح-حواء كانت تلد في كل بطن ذكرا وأنثي وكان آدم يزوج الذكر من هذا البطن الأنثي من البطن الأخري أي كان الأخ يتزوج بأخته من البطن الآخر ولا تحل له أخته توأمته فولدت حواء مع قابيل أختا جميلة اسمها اقليمياء ومع هابيل أختا ليست في جمالها اسمها ليوذا فلما أراد آدم تزويجهما قال قابيل أن أحق بأختي توأمتي وهي إقليمياء فأمره آدم أن يمتثل لحكم الله من الزواج بليوذا ولكن قابيل لم يأتمر وزجره فلم ينزجر فاتفقوا علي أن يتقدم كل من قابيل وهابيل بقربان فتقبل القربان من هابيل ولم يتقبل من قابيل مما دفع هذا الأخير إلي قتل أخيه.
مما سبق يتبين إذن أن آيات الكتب المقدسة تدل بما لا يدع مجالا للشك علي أن الإنسان الأول بدأ حياته بالأسرة وأن الأسرة الأبوية كانت هي النواة الأولي للمجتمع وأن الإنسان قد عرف نظام الزواج منذ اللحظة الأولي لاستقراره علي الأرض وأن الزواج كان يتم طبقا لقواعد منظمة ومفروضة.
المطلب الثاني
الحالة الاقتصادية
اعتماد الإنسان البدائي علي الطبيعة في غذائه :
فقد كان الإنسان في بادئ حياته يعتمد اعتمادا كليا علي ما يقتنصه من حيوانات برية أو يصطاده من أسماك وما يجمعه من ثمار تتساقط من الأشجار وما يلتقطه من أعشاب أو سيقان وجذور أو حشرات وديدان فالشك في اطراد موارد الطعام جعل الشعوب الفطرية تأكل مل ما يصادفها دون ما تمييز.
اعتماد الإنسان البدائي علي الطبيعة في آلاته وأدواته :
وكان الإنسان يستعمل في هذه الفترة قطع الحجارة والعظام بصورتها التي وجدت بها في الطبيعة أو مع إدخال بعض التهذيبات عليها ليدافع عن نفسه ضد الوحوش المحيطة به ولقضاء أغراضه المختلفة فهو لم يجاوز المرحلة المسماة باسم العصر الحجري القديم ولم يتوصل بعد إلي صناعة آلاته وأدواته من المعادن أو علي الأقل من الخزف والفخار كما أنه كان يجهل صناعة النسيج وفن النجارة ولذلك كانت الأشياء المادية التي يستعين بها تتميز بالبساطة وكان لا يجوز منها إلا ما يستطيع حمله بنفسه من مكان إلي آخر.
اعتماد الإنسان البدائي علي الطبيعة في مسكنه :
وكانت مساكن الجماعات الفطرية هي الأخري غاية في البساطة فهم يأوون إلي الكهوف أو المغارات أو الحفر الموجودة في الأرض أو يقيمون ساترا يحتمون وراءه من الرياح أو يتخذون مساكن من أغصان الشجر وأوراقه وهذه المساكن ليست دائمة إذ أنهم يهجرونها في كل مرة يخرجون فيها للسعي وراء الحيوانات التي يقتنصونها والنباتات البرية التي يجمعونها فحينما تجذب الأرض التي يحطون رحالهم فيها يتركونها وينتقلون إلي منطقة أخري وهكذا ولذلك كانت حياتهم تتسم دائما بالترحل وعدم الاستقرار.
دور المرأة في الحياة الاقتصادية البدائية :
وكانت كل جماعة من الجماعات الفطرية تضم مجموعة من الأفراد يتراوح عددهم من عشرة إلي عشرين شخصا وقد يصل هذا العدد في بعض الجماعات مثل الجماعات الاسترالية إلي ثلاثين شخصا وكل جماعة رغم صغر عددها كانت تحتل مساحة كبيرة جدا من الأرض حتي تستطيع الحصول علي ما يكفيها من القوت وفي بعض الأحيان كانت الجماعات التي تتحدث نفس اللغة تقيم علي مساحات متجاورة وتكون ما يمكن أن نطلق عليه علي سبيل التجاوز قبيلة واحدة وكانت المرأة تشارك الرجل في الحصول علي القوت بل أنه يعزي إليها الفضل في التوصل إلي أكبر كشف اقتصادي بين الكشوف جميعا وهو معرفة ما يمكن لتربة الأرض أن تخرجه فبينما كان الرجل يخرج إلي الصيد وقنص الحيوانات كانت هي تنكت الأرض حول الخيمة أو الكوخ لتلتقط كل ما عساها أن تصادفه فوق الأرض من مأكل ففي استراليا مثلا كان العرف القائم هو إذا غاب الزوج في رحلات صيده أخذت الزوجة تحفر الأرض بحثا عن جذور تؤكل وتقطف البندق من الشجر وتجمع العسل والفطر والحب والغلال التي تنبتها الطبيعة.
سيادة مبدأ (الاكتفاء الذاتي) :
وكانت القاعدة في العالم القديم هي أن كل جماعة تكون وحدة اقتصادية مستقلة عن غيرها من الجماعات فهي تكفي نفسها بنفسها وتقوم الحياة فيها علي أساس مبدأ الاكتفاء الذاتي فليس هناك تخصص في الإنتاج وبالتالي لا يوجد فائض لدي الجماعات يمكنها أن تتبادل به الفائض لدي الجماعات الأخري.
عدم تراكم الثروة وسيادة مبدأ المساواة الاجتماعية :
وتتميز المجتمعات البدائية بسيادة المساواة الاجتماعية بين أفرادها فليس هناك فريق من الناس ينظر إليهم باعتبارهم اسمي أو أرفع من الآخرين وإنما الجمع سواسية ولا تفصل بينهم فوارق اجتماعية أو طبقية ومرجع ذلك أن الثروة كانت لا تلعب في حياة هذه المجتمعات دورا ذا بال فالإنسان ليس في حاجة إلي ما يختص به لأنه يعيش علي الصيد وعلي ما تناله يده من الثمار الطبيعية التي تنتجها الأرض ومن ثم فقد اقتصر حق الملكية في ذلك الوقت علي الأدوات الحجرية التي كان يستخدمها الفرد لقضاء أغراضه المختلفة وبعبارة أخري فإن الأموال المعروفة لدي المجتمعات البدائية كانت قليلة للغاية بالإضافة إلي أنها كانت في معظمها أشياء استهلاكية لا تحتمل البقاء طويلا أو هي آلات وأدوات في وسع كل من يرغب في الحصول عليها أن يصطنعها لنفسه ولا شك أنه في مثل هذه الظروف يتعذر تراكم الثروات ولا تكون الفرصة سانحة لتفاوت بين الأفراد في أوضاعهم المالية يتولد عنه تفاوت بينهم في مكانتهم الاجتماعية.
المطلب الثالث
المعتقدات الدينية
كيف نشأت فكرة الدين لدي الإنسان البدائي ؟
تعاونت عدة عوامل في خلق العقيدة الدينية لدي الإنسان البدائي منها الخوف من الموت والدهشة لما تسببه الحوادث التي تأتي مصادفة أو الأحداث التي ليس في مقدوره فهمها والأمل في معونة الآلهة والشكر علي ما يصيب الإنسان من حظ سعيد.
الخوف من الموت :
فالخوف من الموت الذي يسلب الإنسان حياته كان بداية الطريق للبحث عن الآلهة كما يقول بعض الفلاسفة أول أمهات الآلهة ذلك أن الحياة البدائية كانت محاطة بالمخاطر وكانت كثرة الناس تلقي حتفها بعامل من عوامل الاعتداء العنيف أو بمرض غريب يفتك بها فتكا وقلما أصاب الإنسان الموت عن طريق الشيخوخة الطبيعية ولذلك لم يصدق الإنسان البدائي أن الموت ظاهرة طبيعية وعزاه إلي فعل الكائنات الخارقة للطبيعة.
الدهشة أمام الظواهر الطبيعية :
وكان الإنسان البدائل يقف في دهشة أمام هذا الكون العجيب فلم يكن يعرف تعليلات لحركة النجوم والكواكب وتعاقب الليل والنهار وظل عاجزا أمام قوي الطبيعة التي تقهره مثل العواصف والبرق والأمطار .. الخ دون أن يستطيع تعليل أسرارها أو يقف علي أسباب حدوثها فاتجه بتفكيره صوب القوي الخفية علة يجد جوابا علي سؤاله الحائر المتردد.
الخوف من الغضب والأمل في الرحمة :
والإنسان يأمل في معونة الشمس والمطر والسحاب وغير ذلك من العوامل التي تساعده علي الاستمرار في الحياة ولذلك نراه يعمل علي استرضائها عن طريق نحر الذبائح وتقديم الابتهالات والطقوس.
هذه العوامل مجتمعة دفعت بالفكر الإنساني الفطري إلي الاعتقاد بأن لكل ما هو في الوجود من إنسان ونبات وحيوان وغير ذلك من الظواهر الطبيعية روح أو إله خفي لذلك ظهرت العقيدة الدينية أول ما ظهرت في صورة عبادة الروح.
وهكذا يمكننا أن نقرر مع بعض الفقهاء بأن الأديان الأولي التي عرفتها المجتمعات البشرية الفطرية قد ارتكزت علي دعامتين رئيسيتين :
1-     إلي إيمان بوجود قوي خارقة للطبيعة أو فوق طاقة البشري تؤثر في حياة الإنسان.
2-  وجود نشاط بشري في صورة طقوس شكلية ابتغاء التقرب إلي الآلهة ومحاولة استرضائها علي وجه الدوام وهذان العنصران يعيران عن أساس الشعور الديني الخوف من الغضب والأمل في الرحمة.
الفرع الأول
المعبودات الدينية
عبادة الروح بصفة عامة :
ولما كان لكل شئ حسب اعتقاد الإنسان البدائل روح أو إله خفي فقد تعددت المعبودات بتعدد الكائنات وحتي الآن لم يتوصل العلماء إلي معرفة أي الأشياء في هذا العالم الفسيح كان أول معبود للإنسان وإن كان من الثابت أنه عبد الأجرام السماوية كالقمر والشمس والنجوم كما عبد النار والأرض والنبات والحيوان وروح الموتي فكل شئ من هذه الأشياء وكل كائن من هذه الكائنات يحتوي إلها أو هو بذاته إله ويتحرك بأمر روح كامن في جوفه.
الآلهة البشرية :
وقد تطورت العقيدة الدينية بمرور الزمان وانتقلت من عبادة قائمة علي الخوف والرهبة من قوي الطبيعة إلي عبادة قائمة علي تمجيدها والإشادة بقوتها وفضلها فما أن تمكن الإنسان من تطهير الغابات المحيطة به من الوحوش الضارية واستئناس كثير من الحيوانات حتي حلت عبادة الآلهة البشرية محل عبادة الحيوان ويبدو أن معظم الآلهة البشرية كانوا في بداية الأمر من الموتي وأن الإنسان البدائي قد اتجه إلي عبادتهم والإشادة بهم وتمجيدهم مخافة ما ينزلونه به من لعنات خاصة إذا كان الموتي من أولئك الذين يتمتعون بالقوة ويلقون بالخوف في نفس الناس إبان حياتهم.
عبادة الأسلاف :
ونفي أواخر العصر الحجري القديم نجد أن عبادة روح الموتي قد خطت خطوة جديدة إلي الأمام وذلك عندما تحول إلي عبادة للأسلاف وقد شاعت هذه العبادة شيوعا سريعا في كل أرجاء المعمورة فازدهرت في مصر واليونان وروما ولا تزال قائمة ومستولية علي النفوس بقوة في اليابان والصين الحالية وساعدت علي ربط أواصر الأسرة ربطا دقيقا وكانت لكثير من المجتمعات البدائية بمثابة إطار خفي ينتظم الأفراد في مجموعة متماسكة وهكذا نري أن الخوف قد تطور حتي أصبح حبا فشعائر عبادة الناس لأسلافهم التي يرجح أنها كانت وليدة الخوف في أول الأمر قد أثارت في القلوب بعدئذ شعور الرهبة ثم تطورت أخيرا إلي ورع وتقوي وأن صورة الآلهة التي بدأت في أول الأمر في شكل الغيلان المفترسة قد انتهت إلي صورة الآباء الذين يحبون أبناءهم.
الفرع الثاني
الشعائر الدينية
السحر التمثيلي :
عندما تصور الإنسان البدائي عالما من الأرواح يجهل طبيعتها وغايتها عمل علي استرضائها وتجنب أذاها حتي تقف في جانبه وتعاونه وكان السحر التمثيلي من أول الطرق التي حاول بها الإنسان أن يكسب معونة الأرواح والآلهة وكان يعتمد علي أداء طقوس معينة وحركات خاصة شبيهة بالأفعال التي يريد الإنسان من الآلهة أن يؤدوها له كأنه بذلك يغريهم بتقليده فمثلا إذا أراد الناس أن يستنزلوا المطر صب الساحر ماء علي الأرض أو يذهب إلي مستنقع للمياه ويرتل نغمة سحرية ثم يأخذ قدرا من الماء في يديه ويرتشف منه رشفة ثم يلقي به من حواليه ويعود إلي مقره وينتظر سقوط الأمطار.
الأعياد الدينية :
ثم تطور المجتمع خطوة إلي الأمام عندما أضاف إلي السحر وسيلة أخري هي الأعياد الدينية التي تقام طلبا لمعونة الآلهة أو شكرا لها ومثال ذلك أعياد البذر والحصاد.
تقديم القرابين:
وأخيرا فقد عمد الإنسان إلي تقديم قرابين للآلهة في احتفالات خاصة وكان في بادئ الأمر يضحي بنفس بشرية مثل التضحية بأحد الأفراد في وقت البذر حتي تخصب الأرض بدمائه وبعد ذلك خفت الصورة بعض الشئ فاكتفي بذبح الحيوان قربانا.
ظهور طبقة رجال الدين :
ومع الزمن تعددت طقوس الدين وتعقدت ولم يعد باستطاعة الرجل العادي استيعابها والإلمام بها ومن هنا نشأت طبقة خاصة أنفقت معظم وقتها في مهام الدين ومحافله وهي طبقة رجال الدين.
المبحث الثاني
النظم القانونية لدي المجتمعات الفطرية
المطلب الأول
نظام الملكية
الملكية الفردية للأشياء المنقولة :
كان مفهوم الملكية لدي الجماعات البدائية مختلفا تماما عن مفهومها في الوقت الحاضر ذلك أن الملكية الفردية قد اقتصرت علي بعض الأشياء المنقولة فقط أما قطعة الأرض التي تعيش عليها الجماعة فإنها كانت تعتبر مملوكة ملكية جماعية فالإنسان في تلك العهود لم يكن في حاجة إلي مال يختص به لأنه كان يعيش علي الصيد وعلي ما تناله يده من الثمار الطبيعية التي تنتجها الأرض ومن ثم فقد اقتصر حق الملكية علي بعض الأدوات الحجرية التي كان يستخدمها الإنسان في الصيد أو الحرب وكانت القاعدة السائدة في ذلك الوقت هي أن الشئ يعتبر مملوكا لمن يحوزه ويستخدمه بصفة دائمة ومعني ذلك أن مفهوم الملكية بالمعني المعروف لنا الآن لم يكن قد تبلور بعد وأن الشعوب البدائية كانت تخلط بين الملكية ومجرد الحيازة المادية للشئ مع إعطاء الأهمية للأخيرة.
ملكية المأكولات :
أما القاعدة السائدة بالنسبة للمأكولات وهي أيضا من المنقولات فهي أن نتاج الجمع من الثمار والنباتات والفاكهة .. الخ يعتبر مملوكا ملكية خاصة لصاحبه وله بذلك أن يحتفظ به لنفسه وزوجه وأولاده أما نتاج القنص والصيد فإن التقاليد الشائعة لدي البدائيين كانت تقضي باقتسامه لا بين من أسهموا فيه فحسب وإنما بين أفراد الجماعة كلهم فهي مملوكة علي الشيوع للجماعة وتوزع بينهم طبقا لتقاليد معينة ويبرر بعض العلماء فكرة الشيوعية في القوت هذه بالظروف المعيشية للجماعات البدائية حيث لم يكن في الإمكان الاحتفاظ باللحم مدة طويلة في ظل الظروف القاسية التي كانت تعيش فيها هذه الجماعات وقد يكون الحيوان من الضخامة بحيث لا يستطيع القانص وأسرته استهلاكه في وقت قصير ومن ناحية أخري فإن مصلحة القانص نفسه كانت تقتضي إشراك أفراد الجماعة الآخرين في اقتسام صيده حتي يضمن بذلك إشراكه في اقتسام ما قد يوفقون إليه من قنائص في الأيام المقبلة علي أنه ثمة رأي آخر نرجحه يرجع حالة الشيوعية في القوت التي سادت لدي الجماعات البدائية إلي فكرة التضامن التي كانت تربط بين أفراد الجماعة الواحدة فهذه الفكرة كانت تسيطر عليهم ولم يكن باستطاعة أحدهم أن يفكر في الخروج عليها.
الملكية الجماعية للأرض :
وفيما يتعلق بقطة الأرض التي كانت تقيم عليها الجماعة فإنها تعتبر مملوكة ملكية جماعية للجماعة كلها طالما بقيت في حيازتهم وكانت الأرض تقسم بين الأسر المنبثقة عن الجماعة بحيث تختص كل أسرة بقطعة صغيرة تقوم بفلاحتها واستغلالها لمدة مؤقتة ويكون لها عليها حقوق أقرب إلي الحيازة منها إلي الملكية بمعني أنه لا يجوز لأسرة أن تتنازل عن نصيبها أو أن تتوارثه بين أعضائه بل عليها أن ترده إلي الجماعة عند انتهاء الانتفاع.
ظهور نظام ملكية الأسرة :
وعندما استقر الإنسان في الأرض وأصبحت الزراعة تمثل جزء هاما من حياته الاقتصادية وجد أن العناية بالأرض تبلغ أقصاها من حيث غزارة الإنتاج إذا ما عادت ثمار العناية إلي الأسرة التي قامت بها فنتج عن ذلك أن تحول الاستغلال المؤقت المسموح به للأسرة إلي حق ملكية دائم وتحولت بذلك ملكية الجماعة إلي ملكية الأسرة كما سنري فيما بعد.
وقد ساهمت العوامل الدينية في إحداث هذا التحول ذلك أن عبادة الأسلاف كانت تقضي بدفن الموتي في الأرض الأمر الذي ترتب عليه عدم جواز انتقال هذه الأرض من أسرة إلي أخري.
وإذا كانت الأرض الخاصة بكل جماعة تعتبر مملوكة لها ملكية جماعية فإن الحق في استغلال هذه الأرض كان مقصورا علي أفراد الجماعة وحدها دون سواهم من أفراد الجماعات المجاورة فقد كان يحرم علي كل غريب عن الجماعة اختراق الحدود الخاصة بها وإلا عرضه ذلك للقتل وكان الاعتداء علي الحقوق الخاصة لكل جماعة يشكل في الواقع أحد الأسباب الرئيسية للمنازعات التي تثور بين الجماعات المختلفة والتي غالبا ما تفضي إلي سفك الدماء.
الخلاصة إذن هي أن الجماعات البدائية لم تعرف من نظام الملكية الفردية إلا ملكية المنقول فهو وحده الذي كان يجوز للفرد أن يسيطر عليه سيطرة تامة وأن يستأثر بالانتفاع به أما الأرض فقد كانت تعد ملكا للجماعة بأسرها.
المطلب الثاني
نظام الحكم
من الأسرة إلي القبيلة :
عاش الإنسان البدائي كما سبق القول في جماعات صغيرة مستقلة إحداها عن الأخري وتتكون كل جماعة من عدد من الأسر تقل أو تكثر حسب قلة أو وفرة الغذاء في المنطقة التي تعيش فيها وهذه الجماعة التي تضم عددا من الأسر يرتبط أفرادها برابطة القرابة إما حقيقة أو حكما فقد ترجع هذه الأسر إلي أصل بعيد مشترك هو مؤسس الجماعة وبذلك تكون مرتبطة ببعضها برابطة الدم أو الأصل المشترك ويطلق علي هذه الجماعة اسم العشيرة ومع مرور الزمن يتزايد عدد السكان ونكون مجموعة العشائر التي ترتبط برابطة الدم ما يسمي بالقبيلة وقد تتكلم مجموعة من الأسر لغة مشتركة وتوجد بينها علاقات وروابط اجتماعية قوية فإذا كان عرف هذه الأسر يسمح بالزواج من خارج الأسرة فإنه يكون باستطاعة أفرادها أن يتزوجوا فيما بينهم وتتولد بذلك رابطة قرابة تضمهم جميعا في جماعة واحدة وتتكون عندئذ ما يمكن تسميته بالقبيلة وقد تتدخل الديانة لكي تقوي الرابطة بين أفراد هذه الجماعة خاصة إذا كانت تقوم علي عبادة الأسلاف أي الأصل المشترك الذي ترجع إليه الجماعة وتنتسب إليه العشيرة.
فالوحدة الأساسية في المجتمعات البدائية هي إذن القبيلة ويقصد بها مجموعة من الأسر ترتبط بأواصر القربي وتشغل بقعة من الأرض علي سبيل الشيوع ولها عبادة مشتركة وتتكلم لغة واحدة.
علاقة القبيلة بغيرها من القبائل:
وقد كانت كل قبيلة تتمتع بالاستقلال الذاتي وتصرف شئونها منفصلة عن غيرها كما هو الشأن في العلاقات بين الدول في العصر الحديث ذلك أن فكرة الدولة بمعناها المعروف لدينا اليوم لم تظهر إلا بعد انتشار الزراعة في العصر الحديث وبالتالي لم تكن هناك سلطة عليا تدين لها القبائل المختلفة بالولاء.
السلطة داخل الجماعة :
علي أن عدم وجود نظام الدولة لا يعني في الواقع أو عدم وجود المجتمع السياسي لأن السلطة العليا داخل الجماعة كانت تتركز في يد الشيوخ ورؤساء الأسر وكانت هذه السلطة تمتد لتشمل كل ما يتصل بالأسرة من أشياء وأحياء بما في ذلك الزوجة والزوجات والأولاد والأرقاء والنزلاء واللاجئين إلي حماية رب الأسرة وهي سلطة مطلقة لا تتقيد بقيد ولا يحد منها قانون أو عرف فكانت تمتد إلي أرواح الإفراد وأموالهم.
فرب الأسرة هو الممثل لأسرته في صلاتها الخارجية ومنازعاتها مع الأسر الأخري التي تدخل في دائرة العشيرة وهو القاضي الذي يفصل بين أفراد أسرته بما شاء وهو المتصرف في مصير الأعضاء فله أن يخرج منهم من يشاء عن نطاق الأسرة بأن يبيعه بيع الأرقام أو يقبل انضمامه لأسرة أخري عن طريق التبني أو يتبرأ منه فيصبح خليعا لا أسرة له وهو أخيرا رئيس الديانة العائلية.
وبمرور الزمن بدأت السلطة داخل الجماعة تتركز في يد فرد واحد هو رئيس الجماعة وقد يكون هذا الرئيس أحد زعماء القبيلة أو شيخ من شيوخها وفي جميع الأحوال فإن تمتعه بالسلطة كان يرجع في بادئ الأمر إلي قوته سواء كانت قوته المادية أم ذكائه وحكمته ولذلك كان رئيس الجماعة هو أقوي أفرادها ولكن هذه الفلسفة ما لبثت أن تبدلت وذلك عندما استقرت المعتقدات الدينية في النفوس في أواخر مرحلة الوحشية وبداية مرحلة البربرية حيث بلغت عبادة الأسلاف أوج عظمتها ومجدها وأصبحت طاعة رئيس الجماعة تعبر عن طاعة الآلهة التي يمثلها هذا الرئيس.
والقاعدة العامة هي أن سلطة رئيس الجماعة قائمة وقت السلم ووقت الحرب غير أن العادة قد جرت لدي بعض الجماعات علي أن تختار أشجع مقاتليها وتوليه القيادة وقت الحرب وتطيعه طاعة عمياء حتي إذا ما فرغوا من قتالهم نزعوه وأعادوا السلطة إلي الرئيس العادي.
المطلب الثالث
نظام الجرائم والعقوبات
عدم التفرقة بين الحق المدني والحق الجنائي :
يقرر الباحثون بحق أن العدالة في تلك العصور الفطرية لم يكن لها أساس خلقي بل كانت قائمة علي المصلحة المادية المعززة بالقوة يقتص بها الخصم من خصمه وينال بها من أموال عدوه ما يراه عرضا عما أصابه ولم يكن استعمال القوة مقصورا علي الأعمال التي يطلق عليها في عصرنا الحالي اسم الجرائم بل كان شاملا لكل نزاع مدنيا كان أم جنائيا فكل اعتداء علي حق يعد جريمة لأنه إهانة لصاحبه شأنه شأن الاعتداء علي النفس أو علي المال ويدفع المعتدي عليه وعشيرته إلي الانتقام.
ولما كان الانتقام يبعث دائما علي الانتقام وقد ينتهي إلي حرب بين الجماعات لا رحمة فيها ويقضي بذلك علي حياة الاستقرار والطمأنينة اللازمة لكل تقدم أو تطور فقد عملت الجماعات البشرية جاهدة علي أن تتخلي عن القوة كوسيلة لحسم المنازعات بينها وتلجأ إلي التصالح أو التحكيم كوسائل بديلة تجنبها ويلات الحروب وما تجره من خراب ودمار وقد تعددت صور التصالح واختلفت أشكاله تبعا لاختلاف الظروف الاقتصادية والاجتماعية للجماعات القديمة.
وسوف نتبع المجتمعات الفطرية خلال هاتين المرحلتين : مرحلة القوة ومرحلة التصالح أو التحكيم حتي نقف بوضوح تام علي حقيقة التغيير الذي طرأ علي نظام الجرائم والعقوبات.
الفرع الأول
حكم القوة
أولا : مجال استعمال القوة :
سبق القول إن القوة كانت الوسيلة الوحيدة المتاحة أمام الأفراد سواء لحماية الحق والحفاظ عليه أو لإنشائه ابتداء ولذلك قيل بحق أن القوة خلال هذا العصر هي التي كانت تنشئ الحق وتحميه في آن واحد علي أن استعمال القوة لم يكن مقصورا علي العلاقات بين الجماعات المختلفة فحسب وإنما كان يعد كذلك الأساس الذي تدور حوله العلاقات بين أفراد الجماعة الواحدة.
استعمال القوة داخل نطاق الجماعة :
أ-الأفعال الماسة بمصلحة الفرد :
ففي داخل إطار الجماعة نجد أن النظام العقابي كان يقوم علي أساس الانتقام الشخصي أو الثأر فكان كل فرد يثأر لنفسه إذا ما وقع عليه أي اعتداء ولما كانت الجماعات البدائية تبلغ حدا من الضآلة يندر معه وقوع اعتداءات من بعض أفرادها علي البعض الآخر فإننا لا نكاد نجد لديها جزاءات محددة لصور الاعتداء المختلفة وإنما كان الفرد المعتدي عليه هو الذي يقدر ما إذا كان الفعل الذي وقع عليه يعتبر اعتداء يستوجب العقاب أم لا وهو أيضا الذي يقدر نوع العقاب ومقداره وهو الذي يوقعه بنفسه أو بمعاونة أهله وأصدقائه.
ب-الأفعال الماسة بمصلحة الجماعة ككل :
أما إذا كان الفعل لا يقتصر أثره علي المجني عليه فحسب وإنما يمس بكيان الجماعة كلها ويهدد أمنها مثل اعتياد الإجرام وممارسة السحر الضار والاتصال بالمحارم فإن أمر تقدير الجزاء وتوقيعه علي الجاني لا يترك للمجني عليه أو أقاربه وإنما تتولاه الجماعة عن طريق شيوخها أو رؤسائها.
ج-دور الديانة في الحد من تطبيق قانون الانتقام الفردي أو الأخذ بالثأر:
وعندما ظهرت المعتقدات الدينية وبدأت تستقر في النفوس زاد عدد الأفعال التي تهم الجماعة وقل بالتالي عدد الأفعال التي كان يترك أمر العقاب عليها لإرادة المجني عليه ذلك أن الديانة أسبغت علي تقاليد الجماعة هالة من التقديس فأصبح ينظر إليها علي أنها التقاليد التي ارتضتها آلهة الجماعة وأصبح كل اعتداء من فرد علي آخر يمثل معصية وثنية تلوث الجماعة ككل وتعرضها لغضب الآلهة وبطشها ولا تزول هذه المعصية إلا بتوقيع العقوبة التي ترتضيها الآلهة وتوحي بها إلي رئيس الجماعة باعتباره ممثلا لها وبذلك انتهي الأمر إلي نبذ القوة كوسيلة لتنظيم العلاقات بين أفراد الجماعة الواحدة وظهر الاحتكام إلي رئيس الجماعة وحينئذ ظهرت قواعد قانونية ممثلة في التحكيم وصوره المختلفة.
2-استعمال القوة خار دائرة الجماعة :
أما خارج دائرة الجماعة  فقد ظلت القوة هي الوسيلة الوحيدة التي تحسم كل نزاع بين الجماعات المختلفة مهما كان نوعه وهي التي تحمي الحق بل وتخلقه خلقا لأن تقدير الحق أو الواجب مبني علي قوة الخصم أو ضعفه دون التفرقة في ذلك بين أمر مدني وأمر جنائي فكل اعتداء علي حق كان يعد جريمة تدفع المعتدي عليه وعشيرته إلي الانتقام هذه الحالة الخلقية كانت تتفق مع معيشة القوم وعقليتهم إذ لا تعترف الجماعة بحق للغريب عنها بل تعتبره عدوا يحل قتله كما يحل قتل الوحش الضاري ولا تعتد بالاعتداء علي شخص الغير أو ماله فلا تعتبره جريمة ولا يجر علي صاحبه وزرا ولا عارا بل كان السلب مسلكا شريفا والإغارة مبعثا للفخر والانتقام واجبا تحتمه المروءة.
نخلص مما سبق إلي أن القوة كانت في بادئ الأمر فيصل كل نزاع في علاقة الجماعة بغيرها من الجماعات وفي الواقع فإن هذه الحالة كانت ترجع إلي عدة أسباب نشير إليها فيما يلي :
ثانيا – أسباب الالتجاء إلي القوة :
1- تضامن أفراد الجماعة :
كانت كل جماعة من الجماعات البدائية تعيش علي تضامن مشترك يجعل منها كتلة واحدة إيجابا وسلبا فجميع أعضائها يشتركون في الحقوق والواجبات بحيث يكون لكل منهم أن يطالب بحق أخيه أو بثأره ويلتزم كل منهم بمسئولية أخيه فيتحمل تبعة فعله فشخصية الفرد كانت تذوب في شخصية الجماعة بحيث أن أي اعتداء علي عضو من أعضائها كان يعتبر وكأنه واقع علي الجماعة نفسها فتهب بأجمعها للأخذ بالثأر كما أنه إذا وقع اعتداء من أحد أفرادها علي الغير فإن أفرادها يتحملون جميعا تبعة هذا الاعتداء ويتضامنون جميعا في المسئولية قبل أسرة المجني عليه.
2-الظروف الاقتصادية :
فقد كانت الجماعات البدائية تعتمد في حياتها الاقتصادية كما سبق أن رأينا علي الصيد والقنص بجانب الرعي في بعض الأحيان وبصفة خاصة في أواخر هذا العصر وقد ساعدت هذه الحياة القاسية علي نمو روح العداء بين الجماعات المختلفة ذلك أن الزراعة كما يقول ول ديورانت تعلم الناس الأساليب المسالمة وتروضهم علي حياة رتيبة لا يختلف يومها عن أمسها وتنهكهم بيوم طويل من عمل مجهد مثل هؤلاء الناس يجمعون ثروة ولكنهم ينسون فنون الحرب ومشاعرهم أما الصائد والراعي وقد ألفا الخطر ومهرا في القتل فإنهما ينظران إلي الحرب كأنها ضرب آخر من مطاردة الصيد لا تكاد تزيد عن المطاردة في خطرها فإذا نضب معين الغابات ولم يعد يمدهم بما يشتهون من صيد أو إذا ما قلت قطعانهم بسبب اضمحلال المراعي فإن رجال الصيد والرعي عندئذ ينظرون بعين الحسد إلي حقول الجماعة المجاورة وما تحتويه من ثمار وسرعان ما ينتحلون تبريرا للهجوم عليها.
3-عدم احترام حقوق الأجانب عن الجماعة :
فقد كانت الجماعات القديمة تنشئ أفرادها علي عدم احترام حقوق الجماعات الأخري وتغرس في نفوسهم منذ الصغر عادة الحرب والقتال أضف إلي ذلك أن كل جماعة كانت تنظر إلي سائر الجماعات الأخري علي أنها أحط منها فالهنود الأمريكيون يعدون أنفسهم شعب الله المختار خلقه الروح الأعظم خاصة ليكون مثالا يرتفع إليه البشر وقبيلة من القبائل الهندية تطلق علي نفسها الناس الذين لا ناس سواهم وكان الإسكيمو يعتقدون أن الأوربيين إنما ارتحلوا إلي جرينلنده لينقلوا عنهم طرق العيش الصحيحة وقد نتج عن ذلك أن الإنسان البدائل لم يكن يدور في خلده أن يلتزم في معاملته لأفراد القبائل الأخري بنفس القيود الخلقية التي يلتزم بها في معاملته لبني قبيلته لأنه كان يعتقد أن قواعد السلوك التي يسير عليها إنما هي مقصورة علي علاقته بغيره من أفراده جماعته فحسب ومن هنا نجد أن السلب والإغارة كما سبق أن قلنا كانا مبعثا للفخر كما كان الانتقام واجبا تحتمه المروءة.
4- عدم وجود سلطة عليا :
فقد كانت سلطة رئيس القبيلة لا تتعدي دائرة الجماعة ولم تكن هناك سلطة عليا أو مركزية مهما كانت محدودة فنظام الدولة بمعناه المعروف في العصر الحديث لم يظهر إلا بعد انتشار الزراعة في العصر الحجري الحديث ولم تكن هناك أجهزة قضائية تعرض عليها المنازعات التي تثور بين أفراد الجماعات المختلفة ولذلك فإنه لم يكن يقدر لنزاع أن يبقي محصورا بين فردين بل كان يتعداهما حتما إلي الجماعتين وكان الحكم فيه للقوة.
خلاصة القول إذن هي أن فكرة العدالة بالمعني الحديث لم تكن معروفة لدي الجماعات البدائية بل كانت قائمة فقط علي المصلحة المادية المعززة بالقوة : فباستعمال القوة يستطيع الفرد أن ينشئ الحق أو يخلقه خلقا وعن طريقها يستطيع حماية ما يدعيه من حقوق.
الفرع الثاني
ظهور فكرة التصالح والتحكيم
تطور مفهوم العدالة:
عندما جاوزت الجماعات البدائية حياة التنقل والترحال سعيا وراء الرزق وبدأت تستقر في الأرض أخذت تفكر في إبعاد شبح الحروب للاطمئنان علي ما كانت تبذله من جهود لإحياء الأرض وزراعتها وكان لذلك التفكير أثره الواضح علي فكرة العدالة لدي تلك الجماعات فهي لم تعد تقوم علي أساس المصلحة المادية المعززة بالقوة كما كان الحال من قبل بقدر ما أصبحت تقوم علي حب العيش وإشباع غريزة البقاء لدي الإنسان وقد تبلورت تلك الفلسفة في اتجاه الجماعات البدائية نحو البحث عن وسائل بديلة للقوة لحسم المنازعات التي تثور بينها سواء للأخذ بالثأر من المعتدي وعشيرته أو لرد انتقام المعتدي عليه وعشيرته وسواء كان هذا الميل نحو السلم تبرره الرغبة في اجتناب ويلات الحرب أو الخوف من الهزيمة إذا ما انصرفت إحدي الجماعتين إلي الأخذ بالثأر من المعتدي وعشيرته أو رد انتقام المعتدي عليه وعشيرته فإنه قد أصبح حقيقة ملموسة تعبر عنها تصرفات الجماعات البدائية : فقد تلجأ عشيرة المعتدي أحيانا إلي التحلي عنه أو إلي تسليمه لجماعة المجني عليه بدلا من المقاومة وقد تكتفي عشيرة المعتدي عليه أحيانا أخري بالصلح علي مال تعويض أو دية يدفعه المعتدي أو عشيرته بدلا من الأخذ بالثأر واجتنابا لما ينشب من حرب بين العشريتين وبذلك نشأت فكرة التصالح وهي فكرة ارتقت بها الجماعات الفطرية عن مستواها الوحشي الأول.
وفي بادئ الأمر كان التصالح بين المتنازعين يتم مباشرة ودون وساطة أحد وقد يتم نتيجة تدخل وسيط ونصحه لهما بالتزام السلم وبذلك انتهي التطور إلي فكرة الاحتكام إلي شخص ثالث يعرف عليه النزاع للفصل فيه فيحل الحكم محل الوسيط وألف الناس الاحتكام في أغلب الأحوال إلي شيوخ العشائر ورؤسائها.
ونستعرض فيما يلي الصور المختلفة للتصالح ومراحل التطور التي مرت بها ثم نتكلم بعد ذلك عن التحكيم.
أولا: صور التصالح :
تعدد صور التصالح وتنوعت أساليبه عبر القرون المتعاقبة فكان منها خلع الجاني أو التخلي عنه وتسليمه لجماعة المعتدي عليه إرضاء لها والقصاص من المعتدي وحده والتعويض عن الضرر الذي لحق بالمعتدي عليه أو الدية.
1- التخلي عن المجرم :
خلع الجاني أو تسليمه إلي جماعة المجني عليه :
وكان التخلي عن المجرم أو المعتدي يتخذ إحدي صورتين : الأولي هـ " خلع الجاني " حيث كان باستطاعة عشيرة المعتدي إذ لم تشأ تحمل مسئولية اعتدائه أن تتبرأ منه وتتخلي عنه فيصبح بذلك طريدا لا أسرة له وحينئذ يكون لعشرة المجني عليه أن تقتص منه كيفما شاءت والصورة الثانية هي تسليم الجاني حيث تعمد جماعة الجاني إلي تسليمه إلي المجني عليه أو جماعته وبذلك تنحو عشيرة الجاني من الانتقام وتتاح الفرصة أمام جماعة المعتدي عليه لإطفاء شهوة الانتقام ولم يكن الأمر مقصورا علي تسليم الأشخاص بل كان يشمل كذلك تسليم الأشياء التي سببت ضررا للغير ولاشك أن هذه الوسيلة من وسائل العقاب تجد جذورها في فكرة الانتقام الفردي الذي كان سائدا من قبل ومع ذلك فإنها قد مهدت الطريق أمام الجماعات البدائية لنبذ القوة والتخلي عنها لأنها أدت إلي حصر الانتقام في دائرة ضيقة هي الانتقام من الجاني وحده.
2-القصاص :
جوهر القصاص : التناسب المطلق بين الجريمة والعقوبة :
وهنا نجد أن وسيلة العقاب لا تتمثل في التخلي نهائيا عن الجاني كما هو الحال في الصورتين السابقتين وإنما في إيلامه بمثل ما ألم به المجني عليه بحيث يكون هناك تناسب مطلق بين ما ارتكبه الجاني ونوع أو طبيعة الجزاء الموقع عليه فالقصاص هو أخذ الجاني بمثل ما اعتدي : النفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن .. الخ ويمتاز هذا النظام بأنه يرمي من جهة إلي إرضاء شهوة المعتدي عليه أو جماعته في الانتقام والأخذ بالثأر ومن جهة أخري إلي إنزال عقوبة بجماعة المعتدي تتعادل مع ما أصاب جماعة المجني عليه من ضرر وسيلة يمكن بمقتضاها تفادي الإسراف في الأخذ بالثأر وما يترتب عليه من عدم التناسب بين الاعتداء والانتقام في الشدة والقسوة ولذلك يمكننا القول بأن نظام القصاص قد جاء بديلا عاقلا للحروب الخاصة.
وقد وصلت الجماعات الفطرية إلي هذه المرحلة بعد أن تهذبت أخلاقها بعض الشئ وأصبح الانتقام منظما بحيث لا يتجاوز رد الاعتداء بمثله وقد جاء ذلك نتيجة تطور سلطة رؤساء الجماعات واستعمالهم نفوذهم لإقناع أفراد جماعاتهم بعدم الالتجاء إلي الحروب والاكتفاء بالقصاص من الجاني وحده.
3-الدية :
ماهية الدية :
والخطوة التالية نحو القانون والمدنية من حيث التصرف إزاء الجريمة هي الأخذ بالتعويض بدلا عن الثأر حيث تستبدل الجماعة الراغبة في الأخذ بالثأر بالدم المطلوب ذهبا أو متاعا فالدية عبارة عن مبلغ من المال يدفعه المعتدي أو عشيرته للمعتدي عليه أو عشيرته ثمنا وافتداء من العدوان وبعبارة أخري فإنها تتمثل في مبلغ من المال يفتدي به الجاني نفسه ويدفعه للمجني عليه أو عشيرته تهدئة لثورة غضبه وغالبا ما يفوق هذا المبلغ قيمة ما أصاب المجني عليه من ضرر لأنه كما قلنا عبارة عن ثمن يقدمه الجاني ليشتري به حياته.
ارتباط الدية بظهور الأموال وتوافرها في المجتمع :
وكما هو واضح من تعريف الدية فإن المجتمعات البدائية قد وصلت إلي تلك المرحلة المتطورة بعد ظهور الأموال وتوافرها في المجتمع وكان ذلك في أواخر عهد الصيد ثم امتد إلي عهد الزراعة البدائية ثم الزراعة الراقية.
ولا نعني بالأموال هنا النقود المسكوكة ذلك أن الدية كانت تتمثل في بادئ الأمر في عدد من العبيد أو في غالب الأحيان عدد من رؤوس الماسية وكانت الدية تختلف باختلاف جنس المعتدي والمعتدي عليه وعمره ومنزلته ففي بعض المجتمعات كانت تعتبر السرقة الطفيفة التي يأتيها إنسان من سواد الناس أشنع جرما من القتل الذي يقترفه رئيس الجماعة وقد استمرت هذه الحالة طوال تاريخ القانون ففداحة الجريمة كانت دائما تقل بعلو منزلة المجرم.
الدية وسيلة اختيارية لتجنب استعمال القوة :
ولم تكن الدية في بداية الأمر سوي وسيلة اختيارية لدرء استعمال القوة بين الخصمين وعلاجا وقتيا لعلاج الحرب بين الجماعتين فإذا لم يقبل الجاني دفع الدية وثوقا بقوته في مقاومة المجني عليه أو إذا لم يرض هذا الأخير بالدية حرصا منه علي الأخذ بثأره عادت الحال إلي فطرتها وصار الحكم للقوة.
ولذلك تسمي هذه المرحلة بمرحة الدية الاختيارية وهي تلي مرحلة الانتقام الفردي لدي الشعوب القديمة.
تضامن أفراد الجماعة في دفع الدية وفي قبضها :
فإذا قبلت جماعة المعتدي عليه الدية فإن جماعة الجاني كانت تتضامن في دفعها فيسهم كل من أعضاء الجماعة بنصيب معلوم وفي الوقت نفسه كان هذا المبلغ يقسم بين أهل المجني عليه فيأخذ كل منهم نصيبه وبذلك حل التضامن في دفع التعويض أو قبضه محل التضامن في مظاهرة الجاني أو شد أزر المعتدي عليه.
من الدية الاختيارية إلي الدية الإجبارية :
وعندما قويت سلطة الدولة ورسخ في ضمير الجماعة وجوب اتقاء العنف والقوة أصبح الجاني ملزما بأداء الدية كما أصبح المجني عليه ملزما بقبولها والاكتفاء بها بدلا عن الثأر ولم يعد أمر تحديد مقدار الدية متروكا لاتفاق الطرفين وإنما تكفل القانون بتحديده في كل جريمة وبذلك تحولت الدية من اختيارية في بادئ الأمر إلي دية إجبارية أو قانونية وهذه الصورة الأخيرة للتصالح لم تنتهي من تاريخ الجريمة والعقاب إلا عندما تحولت الجرائم إلي جرائم عامة تطالب الدولة لا الأفراد بالعقاب عليها باعتبارها المهيمنة علي المصلحة العامة.
ثانيا – التحكيم :
1-ماهية التحكيم :
يقرر الاتجاه الغالب في الفقه أن التحكيم يعتبر أعلي مراحل التطور الذي وصلت إليه الجماعات الفطرية في عهد القوة وممثل فكرة التحكيم الرضاء بحكم العقل ومنطقه بدلا من ثورات الغضب وفيها تزكية لكبح جماح النفس بدلا من التردي في مهاوي الانتقام والثأر.
الاحتكام إلي محض الصدفة ومشيئة القدر :
وكان التحكيم في بداية الأمر يعتمد علي بعض الأساليب البدائية التي ترتكز بصفة أساسية علي مشيئة القدر ومحض الصدفة وقد تطور تلك الأساليب أو الوسائل واختلفت صورها تبعا لتفكير كل جماعة فكان التحكيم في بعض الجماعات يتمثل في الاحتكام إلي مهارة الخصمين في الطعن والنزال فينظم الحكم بينهما مبارزة يكون المنتصر فيها هو صاحب الحق ولدي بعض الجماعات الأخري كان التحكيم يعتمد علي مهارة الخصمين الفنية فتنظم بينهما مساجلات غنائية يكون المنتصر فيها هو صاحب الحق كما أن بعض القبائل كانت تحتكم إلي مجرد الصدفة كأن يعرض الخصمان قطعتين من عجين الخبز في مكان معين حتي إذا كان إليها طائران من نوع معين كالغربان مثلا وأكلا إحدي القطعتين كان صاحب القطة الباقية هو صاحب الحق ومن الواضح أن هذه الأساليب وأن اختلفت صورها فإنها كانت تعد وسيلة لإنهاء النزاع بصورة ودية وترمي لإصلاح ذات البين بين المتنازعين دون بحث عن العدالة في حد ذاتها.
الاحتكام إلي شخص ثالث (دور رجال الدين ) :
علي أن أرقي صور التحكيم وأكثرها بعدا عن القوة الفردية هي الاحتكام إلي شخص ثالث يتم اختياره بواسطة أطراف النزاع عن رضاء واتفاق كامل بينهما وقد يكون هذا الشخص الثالث حكيما في الجماعة أو صاحب خبرة ورأي أو رئيس العشيرة وقد كان لرجال الدين دور مرموق في هذا المجال بالنسبة لكافة الشعوب القديمة حيث كان للدين أثره في النفوس بل أنهم استمروا يؤدون تلك الوظيفة حتي بعد ظهور نظام الدولة فقد عهدت إليهم بالفصل في المنازعات التي تثور بين الأفراد لأن القانون كان حينئذ جزءا من الدين.
4-القواعد التي يطبقها المحكم :
ولكن ما هي طبيعة القواعد التي كان يطبقها المحكوم فيما يصدرونه من أحكام في حقيقة الأمر لم تكن هناك ثمة قواعد ثابتة ومعروفة سلفا يلجأ إليها المحكم وإنما كان يستمد أحكامه مما يحيط به من ظروف ومن معتقداته الشخصية وفي بعض الأحيان كان يتشاور مع غيره من شيوخ القبيلة أو رجال الدين حتي يتوصل إلي رأي بشأن النزاع المعروض أمامه.
من التحكيم الاختياري إلي التحكيم الإجباري:
وجدير بالذكر أن فكرة التحكيم هذه لم تغير من طبيعة الحالة الفطرية التي كانت تسود بين الجماعات البشرية ،والتي كان تقدير الحق  او الواجب فيها مبنيا علي قوة الخصم أو ضعفه : فهي وإن كانت قد خففت من شدتها إلي حد ما ونظمت استعمال القوة في الصلات الإجتماعية إلا أنها لم تقض عليها تماما ، فقد ظلت القوة هي الموئل الأخير الذي يلجأ الية الخصم لفض النزاع مع خصمه إن لم يرض بما قضي به الحكم أو ما قضت بة الصدفة ومشيئة القدر . وبعبارة أخري فقد ظل التحكيم إختياريا ARBITRAGE FACULATIF  للطرفين المتنازعين ، ولم يصبح إجباريا ARBITRAGE OPLIGATOIRE إلا في العصور التاريخية ،عندما نشأت الدولة كوحدة سياسية بدلا من القبيلة وتوطدت فيها السلطة لملك أو حاكم
المطلب الرابع
آثار النظام البدائي في الشرائع اللاحقة
لقد إختفت قوانين الأمم القديمة والحديثة علي حد سواء بكثير من القواعد والتقاليد التي لا يمكن تفسيرها أو تبرترها إلا بأنها من بقايا الحكم الفطري الذي ساد لدي الجماعات البائية ، بل أن هذه القواعد وتلك التقاليد تعد في حد ذاتها دليلا واضحا علي حالة المجتمع في عصوره الأولي .
الفرع الأول
آثار النظام البدائي في القوانين الحديثة
في نطاق القانون المدني:
من ذلك مثلا في نطاق القانون الخاص أن معظم القوانين الحديثة لازالت تعتبر الاستيلاء سببا من أسباب كسب الملكية فالمادة 870 من القانون المدني المصري الحالي تنص علي أن من وضع يده علي منقول لا مالك له بنية تملكه ملكه أما المادة فتنص علي أنه إذا اعتقل حيوان غير أليف ثم أطلق عاد لا مالك له إذا لم يتتبعه المالك فورا أو كف عن تتبعه وكذلك فإن ما روض من الحيوانات وألف الرجوع إلي المكان المخصص له ثم فقد هذه الحالة يرجع لا مالك له.
في قانون المرافعات :
ولا زالت عناصر الدعوي والدفاع في العصر الحديث تحمل في أسمائها أثر الأسلوب الفطري وتنم عن صلة الشبه بين الماضي والحاضر فالدعوي يطلق عليها لفظ ACTION وفيها معني النشاط الحربي والمدعي عليه يسمي المدافع ومرافعة أحد الطرفين تسمي الدفاع إشارة إلي المعركة القضائية في العصور السالفة غير أن الفارق جوهري فقد كان الحق وليد تبادل الطعنات واليوم أصبح الحق وليد تبادل الكلمات.
في إطار القانون الجنائي :
وفي إطار القانون الجنائي نجد أن التشريعات الحديثة تنص علي مصادرة الأدوات والآلات التي استعملت في ارتكاب الجريمة ويقرر الباحثون أن هذه القاعدة إنما ترجع إلي أن العقوبة كانت قائمة قديما علي الانتقام من مرتكب الجريمة سواء كان إنسانا أم حيوانا أم جمادا كما تبيح التشريعات الحديثة دفع القوة بالقوة في حالات الدفاع الشرعي عن النفس أو العرض أو المال.
في مجال القانون الدولي العام :
وفي مجال القانون الدولي العام نجد أن القوة لازالت هي الأساس الذي تدور حوله العلاقات بين الدول المختلفة فإذا نشب نزاع بين دولتين وتعذر فضه بالطرق والوسائل السلمية مثل التصالح أو الوساطة أو التحكيم .. الخ فإن الدولتين تلجآن إلي الحرب وعندئذ يكون للدولة المنتصرة الحق في الاستيلاء علي أرض الدولة المنهزمة واستعباد شعبها أو تسخيره لمصلحتها ولاشك أن سندها الوحيد في كل ذلك هو القوة.
الفرع الثاني
آثار النظام البدائي في القوانين القديمة
أولا- آثار النظام البدائي في مجال نظام الأسرة :
1-نظام السلطة الأبوية :
فقد كان نظام السلطة الأبوية نظاما مقررا لدي أغلب الشعوب القديمة وإن اختلف مداها باختلاف حالة كل شعب من ذلك مثلا شعوب الرومان واليونان والهند وقبائل الجرمان ومصر وتمتاز الشريعة الرومانية بأنها تقدم لنا مثلا من النظام العائلي والسلطة الأبوية أكبر وضوح وأعمق أثرا منه في أية أمة أخري ذلك أن رب الأسرة كانت له علي أولاده في ظل القانون القديم سلطة مطلقة فهو الذي يقرر عند الولادة ضم المولود لعائلته أو نبذه وهو الحكم الأعلي والقاضي في عائلته فهو الذي يعاقب علي الجرائم التي ترتكب داخل العائلية وله بناء علي ذلك حتي الموت والحياة علي أولاده ذكورا كانوا أو إناثا مع قيد شكلي هو استشارة أقاربه دون التقيد برأيهم وله أن يبيعهم عبيدا داخل أو خارج روما وفيما يتعلق بأموالهم فإنه يعتبر المالك الوحيد لأموال الأسرة مدة حياته فله أن يتصرف فيها بكافة أنواع التصرفات وله أن يحرم أولاده من الميراث إذا أراد ذلك وقد كانت هذه السلطة دائمة بمعني أنها كانت تدوم مهما كانت سن الولد ومهما كان مركزه الاجتماعي ولا تنتهي إلا بخروج الولد من الأسرة بتحريره أو بتبنيه أو بزواج البنت بالسيادة أو بوفاة رب الأسرة أو ضياع شخصيته.
ولكن هذه السلطة المطلقة في مدتها وفي نطاقها التي كان يتمتع بها رب الأسرة في ظل القانون الروماني القديم قد أخذت تنقص شيئا فشيئا منذ أواخر العصر الجمهوري وذلك نتيجة تطور الظروف والأفكار علي أنه من الملاحظ أن النقص كان في نطاق السلطة الأبوية لا في مدتها إذ تقيدت حقوق رب الأسرة بحقوق الابن التي اعترف بها القانون بالنسبة لشخصه ولأمواله.
ففيما يتعلق بالحالة الشخصية نجد أن التطور قد انتهي إلي تحريم نبذ الأطفال واقتصر حق رب الأسرة في بيع أولاده علي حالة الضرورة القصوي وعدم قدته علي الإنفاق عليهم كما سلب حقه في إعدام ولده عقابا له علي جرائمه بعد أن انتقل الحق في العقاب إلي القضاء ولم يعد للأب علي ابنه سوي حق التأديب البسيط ثم تقرر للابن بعض الحقوق قبل والده مثل حقه في مطالبة أبيه بالنفقة وفي التظلم إلي القضاء من سوء معاملته.
وبخصوص الأموال أصبح للابن أهلية التعاقد عن نفسه إيجابا وسلبا أي ليكتسب حقا أو يلتزم بواجب وذلك في حدود الحوزة التي اعترف له بها كما حرم علي رب الأسرة حرمان ورثته من الميراث دون وجه حق.
2-عبادة الأسلاف :
سبق أن رأينا أن هذه العبادة كانت تتمثل لدي الجماعات الفطرية في عبادة الأصل الذي تنتسب إليه الأسرة وقد استمرت هذه العادة باقية في كثير من الشعوب حتي بعد أن قطعت جزءا من مراحل التقدم والتطور الاجتماعي ومن الأمثلة علي ذلك اليونان وروما ومصر القديمة : فدراسة تاريخ هذه الأمم تبين لنا مدي ما بلغته عبادة الأسلاف من قوة وتقديس.
3-التضامن العائلي :
أثرت هذه الفكرة أيضا في شرائع الأمم المتأخرة من ذلك ما كان مقررا لدي اليونان وعرب الجاهلية من أن المطالبة بالقصاص من القائل أو بدية القتل كانت لأهل القتيل أو أولياء دمه كما كانت المسئولية عن الدية والتضامن السلبي تقع لا علي الجاني وحده وإنما علي جميع أفراد العشيرة التي ينتمي إليها ومن ذلك أيضا أن ورثة المدين عند الرومان القدماء كانوا مسئولين عن جميع ديونه ولو فاتت قيمة التركة.
ثانيا – آثار النظام البدائي علي نظام الجرائم والعقوبات :
1-التخلي عن الجاني :
فقد ترك نظام التخلي عن الجاني أثره علي كثير من شرائع الأمم القديمة إذ كان طرد الجاني معروفا لدي عرب الجاهلية تحت اسم الخلع حيث تقوم القبيلة بخلع الجاني من أعضائها في المجتمعات العامة فيصبح طريدا لا أسرة له وتنجو بذلك من انتقام قبيلة المجني عليه وكان معروفا أيضا لدي اليونان حيث كانت العشيرة تخرج الجاني من حظيرتها وتجرده من ماله وثيابه فيصبح أجنبيا عن عشيرته ويحرم بالتالي من حماية الإلهة وكان يطلق علي مثل هذا الشخص كما عرف هذا النظام كذلك لدي القبائل السكسونية وأخذ بتطور حتي انتقل إلي القانون الإنجليزي وأطلق عليه اسم الخروج علي القانون.
وكان تسليم الجاني معروفا عند الرومان تحت اسم التخلي عن مصدر الضرر ولم يكن هذا النظام يقتصر علي تسليم الأشخاص الذين تسببوا بخطئهم في إلحاق الأذي بالغير فحسب وإنما كان يشمل أيضا تسليم الحيوان والجماد فإذا أصابت دابة شخصا ما بضرر وجب علي صاحبها تعويض المصاب أو ترك الدابة إليه وفي حالة المنزل الآيل للسقوط كان للحاكم القضائي أن يقرر تسليم المنزل إلي الجار المشتكي إذا رفض صاحب المنزل التعهد بتعويضه عما يلحقه من ضرر عند سقوط المنزل.
2-القصاص :
وقد تركت هذه القاعدة بصماتها واضحة علي كثير من الشرائع القديمة الوضعية منها والسماوية وكان تقنين حمورابي من أهم التقنينات القديمة التي نصت علي هذا المبدأ إذ ورد في بعض نصوصه ما يفيد أن العين بالعين والسن بالسن والضرب بالضرب والرجل بالرجل والمرأة بالمرأة والابن بالابن والعبد بالعبد والمال بالمال والثور بالثور.
وتعتبر الشريعة اليهودية من أبرز الشرائع التي أخذت بالمبدأ القائل بضرورة عقاب الفعل بنظيره أي التماثل بين الجريمة والعقوبة فقد ورد في التوراة أن نفسا بنفس وعينا بعين وسنا بسن ويدا بميد ورجلا برجل وجرحا بجرح.
وقد أخذا الشريعة الإسلامية هي الأخري بمبدأ القصاص فكثير من آيات القرآن الكريم تنص عليه صراحة من ذلك قوله تعالي (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلي الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثي بالأنثي ). وقوله تعالي ( ولكن في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون).
وقوله تعالي ( الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدي عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدي عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين).
وكان نظام القصاص مقررا في الشرائع اليونانية والجرمانية وفي القانون الروماني القديم حيث كان قانون الألواح الأنثي عشر يخول المجني عليه في جريمة فصل عضو كفقأ عين أو قطع ذراع حق القصاص بنفسه من الجاني ما لم يتفق معه علي دية يدفعها الجاني إليه وكان مقررا أيضا في قانون الجزاء العثماني الصادر سنة 1858 وهو قانون العقوبات الذي كان نافذا في مصر قبل إنشاء المحاكم الأهلية وصدور مجموعة قانون العقوبات الأهلي عام 1883.
3-الدية :
أخذت كثير من التشريعات القديمة بنظام الدية وكانت بعض التشريعات تحدد قيمتها تبعا لمركز المجني عليه الاجتماعي من ذلك مثلا ما ورد في قانون حمورابي من أنه إذا فقأ شخص عين آخر فإن العقوبة تختلف باختلاف المركز الاجتماعي للمجني عليه فإذا كان حرا فإن الجاني يعامل طبقا لقاعدة القصاص (العين بالعين) وإذا كان من الطبقة الوسطي (الموشكينو) يدفع الجاني مينة فضة للمجني عليه وإذا كان من طبقة الرقيق يكون التعويض نصف مينة فقط وكان التعويض الذي يدفعه الجاني في جريمة تحطيم أسنان ثلث مينة فقط إذا كان المجني عليه من الطبقة الوسطي وهي نفس الدية التي تدفع كتعويض في حالة القتل غير العمد وفي جريمة الاعتداء علي المال جريمة السرقة نجد أن مقدار التعويض كان يختلف أيضا باختلاف المركز الاجتماعي للمجني عليه فالسارق يدفع عشرة أمثال الشئ المسروق إذا كان المجني عليه من طبقة الموشكينو أما إذا كان الشئ قد سرق من معبد أو من القصر الملكي حكم علي السارق بدفع ثلاثين مثلاً.
كما أقر القانون الروماني كذلك نظام الدية ونجد تطبيقات عديدة لذلك في قانون الألواح الإثني عشر من ذلك مثلا أنه إذا كسر أحد الأشخاص عظام شخص آخر تكون الغرامة الواجبة ثلاثمائة آس هذا إذا كان المجني عليه حرا أما إذا كان من العبيد فإن الغرامة تصبح مائة وخمسون آسا فقط وبالنسبة لجريمة السرقة في حالة تلبس كان القانون القديم يخول المجني عليه الحق في قتل السارق إذا وقعت السرقة ليلا أو بسلاح وبعد أن تطور القانون الروماني علي يد الحاكم القضائي البريتور تغير هذا الوضع وأصبحت العقوبة التي توقع علي السارق هي دفع أربعة أمثال الشئ المسروق ومن الملاحظ أن الغرامة (الدية الإجبارية) كانت تفوق كثيرا قيمة الشئ المسروق وتفسير ذلك أنها تعتبر فدية لحياة السارق.
وأخيرا فقد أقرت الشريعة الإسلامية نظام الدية بل أنها حددت مقدار الدية الواجبة لكل جريمة من الجرائم ومن الأمثلة علي ذلك قوله تعالي (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلي أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلي أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليماً حكيماً).
الفصل الثاني
مرحلة التقاليد الدينية
المبحث الأول
تطور المجتمع
المطلب الأول
الحالة الاقتصادية
اهتداء الإنسان إلي الزراعة واستئناس الحيوان ومعرفة الصناعة :
لم يعد الإنسان يعيش كما كان يفعل في مرحلة الجمع والقنص عالة علي الطبيعة وإنما أصبح خلال تلك المرحلة يسهم بصورة إيجابية في إنتاج ما يحتاج إليه من قوت فقد تبين للإنسان علي مر الأيام أن الزراعة يمكن أن تكون موردا للقوت أجود نوعا وأثبت اطراداً من الصيد فلما أن تحقق من هذا خطا إلي الأمام إحدي الخطوات الثلاث الكلام والزراعة والكتابة التي نقلته من الحيوانية إلي المدنية فاهتداء الإنسان إلي الزراعة يشكل بحق نقطة تحول بالغة الأهمية في تاريخ البشرية.
وكانت العصا المعقوفة أو الحافرة هي أول ما عرفه الإنسان من أدوات زراعية ويطلق الباحثون علي تلك المرحلة مجتمع الزراعة البدائية أو الزراعة المنتقلة ولكن الإنسان ما لبث أن توصل إلي صناعة الفأس واستخدامها في فلاحة الأرض وعندما استأنس الحيوان وعرف طرق المعادن وتحويرها بواسطة النار أمكنه استعمال أدوات أثقل فكبرت الفأس حتي أصبحت محراثا يضرب الأرض أعمق مما كانت تضرب الفأس فانكشفت بذلك خصوبة الأرض الدفينة وتغير سيرة الإنسان تغيرا كاملا فزرع أنواعا من النباتات كانت تستعصي عليه من قبل وانتقل بذلك من مرحلة الزراعة البدائية إلي مرحلة الزراعة الراقية أو زراعة المحراث.
ولم يحصر الإنسان جهده وطاقته في نطاق الزراعة وإنما أضاف إليها استئناس الحيوان وتربية الماشية واستعمال اللبن وأصبحت بذلك سيادته علي الأرض أكثر ثباتا واطمئنانا.
كذلك نجد الإنسان وقد صنع لنفسه آلات من العاج والمعظم والصخر فصنع المطرقة والسندال والمنشار وسائر أدواته المنزلية كالوعاء والسكين ورأس الرمح والقوس كما نسج الثبات والشباك والمصائد من خيوط الحلفاء والليف والأوراق والحشائش.
التخصص في الإنتاج وتقسيم العمل :
وقد نتج عن اعتماد الإنسان في حياته الاقتصادية علي الزراعة والصناعة أن ظهر الاتجاه نحو التخصص وتقسيم العمل فبدأت بعض الجماعات تتخصص في إنتاج صناعة معينة أن نوع معين من الحاصلات الزراعية بينما تخصص البعض الآخر في إنتاج نوع آخر وبذلك نشأت الحاجة للمبادلات التجارية بين الجماعات ووجدت الأسواق مما أدي إلي ظهور بعض العقود مثل المقايضة والبيع ولم تكن هناك عملة أو نقود يتم التبادل علي أساسها وإنما كان الوضع الشائع هو أن تتخذ سلعة أو أكثر كرؤوس الماشية أو العبيد مثلا أساسا لتقدير قيم الأشياء الأخري فالعملة السلعية هي التي كانت تقوم بالوظيفة التي قامت ولازالت تقوم بها العملة المعدنية أو النقود فيما بعد وكانت هذه السلعة تختلف باختلاف المجتمعات.
المطلب الثاني
الحالة الاجتماعية
1- ظهور الجذور الأولي للتمييز الطبقي :
عندما عرف الإنسان الزراعة عرف معها الاستقرار النهائي في الأرض وراح يوالي الزرع ويرعي الماشية ويصنع من الوسائل عددا لا يحصي لاصطياد فريسته من يابس أو ماء ومكنته حياة الاستقرار من التفكير العلمي ودراسة الفلك رغبة في تنظيم الري لحماية الزرع وقد نتج عن هذا التقدم في الحياة الاقتصادية ظهور الجذور الأولي للتمييز الطبقي إذ بدأت الثروات تتراكم في أيدي البعض دون البعض الآخر وعمل الإرث علي زيادة الهوة بين الطبقات اتساعا بأن أضاف إلي الامتياز في الفرص السانحة امتيازا في الأملاك فكانت التركة تنتقل إلي الابن الأكبر أو علي الأقل يحصل علي نصيب متميز عن بقية إخوته وكان الأخوة لا يقتسمون التركة بل يستمرون في معيشة مشتركة بزعامة الأخ الأكبر أما البنات فقد حرمن من الميراث لأن مآلهن إلي بيوت أزواجهن واشتراكهن في الإرث معناه خروج الثروة من أيدي أصحابها إلي أيدي أجانب عنهم وبمرور الزمن ظهرت طبقة من الأغنياء الذين يملكون مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية أو قطعانا ضخمة من الماشية وانقسم المجتمع بذلك إلي طبقتين متناقضتين الأغنياء والفقراء تبعا للثروة أو الأشراف والعامة تبعا للحسب والنسب ومن ناحية أخري فقد ظهر الرق إلي حيز الوجود عندما كفت القبائل المنتصرة عن قتل القبائل المهزومة واكتفت باسترقاقها للانتفاع بها في أعمال الزراعة أو الرعي ولما استقر نظام الرق علي أسسه وبرهن عن نفعه أخذ يزداد نطاقه بأن أضيف إلي الرقيق طوائف أخري غير أسري الحرب مثل المدينون الذين يعجزون عن الوفاء بديونهم والمجرمون الذين يعاودون الإجرام وبذلك وجد تقسيم آخر للطبقات الاجتماعية في طبقتي السادة والعبيد.
تأثير التمييز الطبقي علي النظم القانونية:
وقد كان للتمييز الطبقي بين أعضاء البنيان الاجتماعي أثره في النظم القانونية ذلك أن القانون كان يضمن استمرار المجتمع وتقدمه عن طريق وضع القواعد الكفيلة بالمحافظة علي الأوضاع الاجتماعية والطبقية وتحديد حقوق وواجبات الأفراد تبعا للطائفة أو الطبقة التي ينتمون إليها رغم ما قد يكون في ذلك من خروج علي مبادئ العدالة ومخالفة قواعد الأخلاق.
فالسادة أو الأغنياء من حقهم كل شئ بينما الفقراء أو العبيد لا يتمتعون غالبا بأي حق أو امتياز.
وبمرور الزمن اصبح الرق يمثل كما يقول أرسطو نظاما فطريا لا غني عنه بل أن البعض مثل القديس بولس قد بارك هذا النظام ونظرا إليه علي أنه نظام قضي به الله وعلي أية حالة فقد ساهم الرقيق في تقدم المدنية بطريق غير مباشر بأن زاد من الثروة وتولي القيام بكثير من الأعمال التي استنكف الأفراد عن القيام بها سواء في مجال الزراعة والرعي أو في مجال الصناعة.
تأثير التقدم الاقتصادي علي هيكل الأسرة :
ولم يتوقف أثر التقدم الاقتصادي عند حد تغيير صورة الهيكل الاجتماعي للمجتمع فحسب بل امتد أيضا لكي يغير من هيكل الأسرة فالراجح أن المرأة هي التي اكتشفت الزراعة البدائية لخبرتها الطويلة في التقاط الثمار والجذور في مجتمع الالتقاط ومجتمع الصيد فقامت بالزراعة بالعصا المعقوفة أما الرجل فكان يقوم بالأعمال العنيفة مثل قطع الأشجار وترتب علي ذلك قيام المرأة بالدور الرئيسي في الاقتصاد الاجتماعي أما في ظل الزراعة الراقية فقد تغير الوضع كثيرا إذ انتقلت الصدارة من المرأة إلي الرجل ويرجع ذلك إلي تقدم الزراعة وازدياد طرقها واختراع المحراث الذي يحتاج إلي قوة بدنية تتوافر في الرجل دون المرأة فأصبح الرجل هو الذي يتولي الزراعة بعد أن كانت المرأة هي التي تقوم بهذا الدور وبرزت مكانة الرجل من الناحية الاقتصادية وقد كان لهذا التطور أثره من ناحية تدعيم أركان الأسرة الأبوية وزيادة سلطة رب الأسرة علي زوجته وأبنائه فالنسب ينحدر عن طريقه وينتقل الميراث إلي أولاده وهو رأس الأسرة وزعيمها الديني الذي يشرف علي طقوسها وشعائرها الدينية بينما هبطت مكانة المرأة في الأسرة وأصبح للزوج عليها في بعض المجتمعات حق الحياة والموت فهي وأولاده في مصاف رقيقه وأمواله وقد ساد هذا الوضع المهين للمرأة بصفة خاصة عند قدماء الرومان فكانت المرأة تمثل جزءا من ثروة الرجل التي تشمل الحقل والبيت والنقود والعبيد والتي تنتقل إلي ورثته بعد موته وهي في قبضته يبسط يده أو يغلها دون أن يحاسبه أحد وليس لها أن تأمر أهبدا ولا تملك السيادة علي نفسها وإنما هي أمة حبيسة تباع وتشتري بالمال.
المطلب الثالث
الحالة الدينية
تأليه الملوك والحكام
وفي عصر التقاليد الدينية نجد أن عبادة الأسلاف قد استقرت تماما في النفوس غير أن إدراك الإنسان وفهمه لهذه العبادة قد تغير بعض الشئ فأخذ يفاضل بين أسلافه ويعتقد في الوهية البعض دون البعض الآخر وانتهي به الأمر منذ أواخر هذا العصر وبداية عصر المدنية إلي عبادة الأبطال من البشر ليس فقط بعد مماتهم بل حال حياتهم أيضا فاعتقد في الوهية الملوك حال حياتهم كما حدث في مصر وبابل وروما.
تأليه الأفكار الفلسفية والخلقية :
ولم يقتصر الأمر علي ذلك بل امتدت فكرة التأليه إلي الأفكار الفلسفية والخلقية كالحكمة والجمال والعدالة .. الخ فكان عند المصريين إلهة للعدل تسمي معات Maat كهنتها هم القضاة يقدمون لها فروض العبادة وتمنحهم المعونة في قضائهم وكان عند اليونان للعدل إلهة تسمي تيميس توحي بحكمها إلي الملك عند نظره فيما يرفع إليه من القضايا والمنازعات وكان عند البابلين أيضا للعدل إلهة تسمي شماس تقوم بنفس الدور الذي تقوم به معات عند المصريين وتيميس عند الإغريق.
ظهور العبادة العادة وحلولها محل العبادة الخاصة :
وكان لكل جماعة آلهتها الخاصة ولا يجوز لغير أعضائها الاشتراك معها في أداء الشعائر الدينية وكان رب الأسرة هو رجل الدين الأول في أسرته أما شيخ القبيلة فكان ينظر إليه باعتباره الكاهن الأكبر للقبيلة وعندما اتسعت دائرة الجماعة وتكونت الجماعات السياسية من عدة أسر وعشائر ونشأت المدينة كوحدة سياسية بدلا من القبيلة وتمكنت فيها السلطة لملك أو أمير كما حدث في البلاد المصرية واليونانية والرومانية القديمة اتسعت دائرة العبادة ولم تعد مقصورة علي عبادة الأسلاف بل شملت عباده الآلهة بعد أن وضعت المدن تحت حمايتهم ننشأت بذلك العبادة العامة التي يشترك فيها سكان المدينة من مختلف الأسر ، وحل الملك أو الأمير محل رئيس الجماعة في الإشراف علي الديانه العامة والقيام بالشعائر والطقوس الدينية بنفسه أو بواسطة أعوانه من رجال الدين (19)

ازدياد نفوذ رجال الدين :
قد ازداد في العصر نفوذ رجال الدين نظرا لقيامهم بدور الوسيط بين الآلهة وبين الناس ، فهم الذين يحملون رغبات الناس إلي الآلهة ويبلغون رد الآلهة الي الناس بما ينتحلونه من ملكه السحر ،ويتولون هذه الصفة القضاء بين الناس واستفهام الأحكام . وكانت الآلهة تظهر رأيها بطرق عدة: فقبل عهد موسي عليه السلام كان الكهنة في بني إسرائيل إذا عرضت عليهم قضية يتصلون بالآلهة ويحركون تماثيلهم فيجيبونهم في إشارات خاصة بالحكم الواجب النطق به ويقول بعض الباحثين إن هذا الأسلوب مستمد من نظام القضاء في مصر القديمة حيث كان يجري العمل في القضاء بأن يسأل رئيس الكهنة الإله آمون عما إذا كان المتهم مذنبا أم بريئا فيحرك الإله رأسه بالنفي أو الإيجاب أو يمسك بإحدي يديه كتاب الاتهام أو كتاب الدفاع وكان ذلك يتم بطبيعة الحال بطريقة آلية بمعرفة الكهنة.
وترتب علي ذلك أن نظر الناس إلي رجل الدين باعتباره مبعوث العناية الإلهية لا ينطق عن الهوي ولكنه يستمد حكمه من وحي الآلهة ومن هنا جاءت السلطة المطلقة التي تمتع بها رجال الدين.
المطلب الرابع
الحالة السياسية
من القبيلة إلي الدولة :
عندما توطنت الأسر وأخذت في استثمار الأرض ظهرت العشائر ثم القبائل المكونة من أسر متعددة تجمعها روابط القربي والديانة واللغة المشتركة وأصبح لكل قبيلة إقليم نقطته وكانت كل قبيلة تخضع في أمورها الداخلية والخارجية لسلطة شيخ القبيلة وبمرور الزمن تمكن رؤساء أو شيوخ القبائل من تركيز السلطات في أيديهم فأصبحت لهم اختصاصات دينية وحربية وقضائية بمعني أن رئيس القبيلة كان يعد الكاهن الأكبر الذي يقيم الشعائر الدينية ويقدم القرابين لآلهة القبيلة وهو القائد الحربي الذي يتولي قيادة القبيلة في معاركها ضد القبائل الأخري وهو أيضا القاضي الذي يفصل في الخصومات إما بنفسه أو بمساعدة رجال الدين وبعد وفاة رئيس القبيلة تنتقل سلطاته واختصاصاته إلي ابنه الأكبر الذي يحل محله.
وقد استمر نظام القبيلة كوحدة سياسية قائمة طوال ذلك العصر لدي بعض الجماعات مثل القبائل الجرمانية والقبائل العربية بينما توصلت كثير من الشعوب التي تقدمت فيها الزراعة إلي فكرة الدولة فاندمجت الجماعات في بعضها وكونت دولة علي رأسها ملك يتولي السلطة العامة فيها وبذلك حلت الدولة محل القبيلة في التنظيم السياسي وانتقلت السلطة من شيخ القبيلة إلي الملك ولكن كيف تم هذا النحو ؟ ما هي الطريق التي تكونت بها الدول وكيف تحول شيخ القبيلة أو رئيس الجماعة إلي ملك يتولي سلطة الأمر والنهي ؟
لقد اختلف العلماء في الإجابة علي هذا السؤال ومن ثم فقد تعددت النظريات التي تفسر نشأة الدولة ولن نتعرض لكل هذه النظريات بالتفصيل ونكتفي بإلقاء الضوء علي أهمها :
أولا: نظرية تطور الأسرة :
يري بعض الفقهاء أن الدولة ظهرت نتيجة التطور التاريخي للأسرة ذلك أن الأسرة التي تربطها صلة الدم وعاطفة القرابة كانت هي الوحدة الاجتماعية الأولي وبمرور الزمن اتسعت دائرة هذه الخلية نتيجة ازدياد النسل والتوسع في فكرة القرابة حتي صارت عشيرة مكونة من عدة أسر ومن تجمع عدد من العشائر التي ينتسب أفرادها إلي أصل واحد تكونت القبيلة أو القرابة ومن اندماج عدة قري أو مدن في بعضها تكونت الدولة وقد صاحب هذا التطور في مفهوم الجماعة تطور آخر في مفهوم السلطة حيث نجد أن هذه السلطة التي كان يتمتع بها في بادئ الأمر رب الأسرة قد انتقلت فيما بعد إلي رئيس القبيلة ثم تخلي هذا بدوره عن السلطة للملك بعد أن تكونت الدولة ويظهر هذا التطور وضوح عند الرومان والإغريق حيث بدأت الدولة لديهما في شكل مدينة.
ومن الواضح أن هذه النظرية تتفق في مضمونها وجوهرها مع الشرائع السماوية التي تقرر أن آدم وحواء هما أصل الجنس البشري وقد أنجبا ذرية تكاثرت علي مر لازمن وافترق بعضها عن بعض واستوطن كل منها مكانا في الأرض.
نقد النظرية :
ويمكننا أن نلاحظ للوهلة الأولي أن هذا الرأي لا يصدق إلا بالنسبة للدول التي أثبت التاريخ أنها قامت في الأصل علي أساس نظام المدينة كاليونان وإيطاليا ولعل السبب الذي دفع إلي بناء هذه النظرية يرجع إلي انتشار الحضارة الإغريقية الرومانية مما جعل البعض يحاول أن يعمم الأساطير التي قامت عليها المدن القديمة لكي يجعل منها قاعدة عامة ولكن المسلمات التي يبني عليها أنصار هذه النظرية رأيهم لا يصدق حتي بالنسبة لتلك المدن القديمة ففي الواقع يلزم لصحة النظرية أن تكون هذه المدن قد تكونت علي أيد سلالات واحدة وأن تكون هذه السلالات قد سكنت المكان منذ بدء الخليقة ولكن الآثار تدل باستمرار علي أنه سبق تكوين المدن الإغريقية والإيطالية هجرة موسعة للسكان ومن ثم فإن هذه المدن لم تكن نتيجة ازدهار واتساع نطاق الأسر كما يدعي أنصار هذه النظرية.
ثانيا – نظرية القوة :
ويذهب أنصار هذه النظرية إلي أن القوة هي الأساس الذي قامت عليه فكرة الدولة وتفسير ذلك لديهم أنه عندما تقدمت الزراعة وعرفت القبائل الاستقرار في أرض معينة وكفت عن حياة الترحال زادت الرغبة لديها في الحصول علي مساحات أكبر من الأراضي الزراعية وعلي عدد أكبر من الأيدي العاملة وبالتالي فقد دخلت تلك الجماعات في سلسلة من الحروب انتهت باسترقاق الجماعات المنهزمة والاستيلاء علي أرضها وتكونت بذلك الدولة التي يرأسها ملك ينتسب دائما إلي الجماعة المنتصرة.
وهكذا نجد أن الدولة في نظر أنصار هذه النظرية ليست سوي نظام فرضه بطريق العنف صاحب القوة الأكبر علي فئة مغلوبة علي أمرها فهي وليدة القوة وتقوم علي أساس حق الأقوي وفي هذا الصدد يقول لستروورد تبدأ الدولة باعتبارها مختلفة عن النظام القبلي بأن يغزو جنس من الناس جنسا آخر ويقول أوبنهيمر : إنك لتري أينما وجهت البصر قبيلة مقاتلة تعتدي علي حدود قبيلة أخري أقل منها استعدادا للقتال ثم تستقر في أرضها مكونة جماعة من الأشراف فيها ومؤسسة الدولة ويقول راتسنهوفر العنف هو الأداة التي خلقت الدولة ويقول سمنر إن الدولة نتيجة القوة وهي تظل قائمة بسند من القوة.
نقد النظرية :
والواقع أنه من الصعب أن نجد القوة وحدها تنشئ دولة عظيمة بصورة مستديمة ومن الثابت تاريخيا أن هناك دولا كثيرة قد تكونت بعيدا عن كل أثر للقوة كما أن هذه النظرية يشوبها الكثير من الغموض فهي لا تبين لنا كيف تكونت القرية وكيف تحولت هذه القرية إلي مدنية.
ثالثا – نظرية المصلحة المشتركة :
وتذهب هذه النظرية إلي أن الدولة وما تفترضه من وجود حاكم قوي مهيمن يخضع له الجميع ليست إلا ضرورة اجتماعية أوجدتها ظروف العيش في جماعة واحدة فقد وجد الأفراد أن من مصلحتهم العيش معا في جماعة حيث يحصل الفرد بتعاونه من غيره علي كثير من المزايا التي يتعذر الحصول عليها في حياة العزلة ولكن ما أن يجتمع الإنسان بغيره من بني البشر حتي يثور بينهم النزع علي الوسائل التي تمكنهم من الحياة ومن هنا تنشأ الحاجة إلي وجود سلطة عليا تعمل علي المحافظة علي حقوق الجميع وفي هذا الصدد يقول العلامة ابن خلدون ثم أن هذا الاجتماع إذا حصل للبشر كما قررناه وتم عمران العالم بهم فلابد من وازع يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم وليست السلاح التي جعلت دافعة لعدوان الحيوانات العجم عنهم كافية في دفع العدوان عنهم لأنها موجودة لجميعهم فلابد من شئ آخر يدفع عدوان بعضهم عن بعض ولا يكون من غيرهم لقصور الحيوانات عن مداركهم وإلهاماتهم فيكون ذلك الوازع واحدا منهم يكون له عليهم الغلبة والسلطات واليد القاهرة حتي لا يصل أحد إلي غيره بعدوان وهذا هو معني الملك.
رابعا : رأينا الخاص :
والواقع أنه من الصعوبة بمكان أن نرجع أصل نشأة الدولة إلي عامل واحد أو واقعة محددة بالذات لأن تاريخ الدول يدل بما لا يدع مجالا للشك علي أن الدولة أن هي إلا ثمرة عوامل متعددة وأحداث مختلفة وتطور طويل هذه العوامل وتلك الأحداث قد تكون جغرافية أو اقتصادية أو سياسية أو دينية وعقائدية وقد تكون نتيجة عامل القوة المعززة بواحد أو أكثر من تلك العوامل وفي جميع الأحوال فإن ظروف نشأة كل دولة تختلف عن ظروف نشأة غيرها من الدول مما يجعلنا نقرر في ثقة واطمئنان علمي بأن محاولة إخضاع كل الدول لظاهرة معينة هي محاولة تخرج بنا عن إطار البحث العلمي الصحيح والأجدر بالباحث في هذا المجال أن يتولي دراسة ظروف نشأة كل دولة علي حدة وأن يتتبع جذورها الأولي في المراحل التاريخية التي مرت بها والظروف البيئية والجغرافية التي أحاطت بشعبها والدور الذي أسهم به كل من العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية والفكرية في أحداث الترابط بين أفراد هذه الدولة وتحقيق ميولهم الغريزية نحو الاجتماع والتعايش معا في ظل سلطة سياسية عليا يدينون لها بالولاء.
المبحث الثاني
طبيعة القانون في هذه المرحلة
اختلاف القانون بالدين :
ترتب علي تطور الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أن زادت دائرة الأفعال التي تهم الجماعة ككل وقلت بالتالي دائرة الأفعال التي كان يترك أمر العقاب عليها للانتقام الفردي أو الثأر وقد ظهرت فكرة القانون في تلك المرحلة في صورة حكم إلهي يوحي به إلي القاضي عند الفصل في النزاع المعروض أمامه فينطق به بصفته إلهاما من الآلهة ولم تكن هذه الأحكام تصدر إلا علي لسان فئة خاصة من الأفراد هي فئة رجال الدين لأنها وحدها هي التي تنتحل ملكة السحر والاتصال بالآلهة وتتولي بهذه الصفة القضاء بين الناس واستلهام الأحكام وبناء علي ذلك يمكننا القول أن القانون قد نشأ في بادئ الأمر مختلطا بالدين والأخلاق وأنه لم تكن هناك معايير أو ضوابط محددة للفصل بين ما هو قانون وما هو متعلق بالعقيدة الدينية والأخلاق وقد ظهر أثر ذلك واضحا بعد أن عرفت الكتابة إذ قام رجال الدين بتجميع صيغ الصلوات والأدعية الدينية وصيغ الأحكام القانونية في مجموعات واحدة دون تمييز بينها فقانون الألواح الاثني عشر الروماني كان يحتوي بجانب القواعد القانونية علي بعض القواعد الخاصة بالآداب الدينية ومراسم الجنازات وقانون مانو الهندي كان يشمل كل ما يتصل بسلوك الإنسان وحياته من الوجهتين الدينية والمدنية فقيه القواعد القانونية والمسائل اللاهوئية والمراسم التي يجب أن يسير عليها المرء في أدوار حياته المختلفة وواجباته في الدين والعبادة وتقديم القربان والصوم والطهارة ويحتوي فوق ذلك علي حكم أخلاقية وأفكار الفنون الحربية والسياسية والتجارية ويبين العقوبات والكفارات والجزاءات التي تصيب المذنب بعد الموت وطرق الوصول إلي السعادة.
المطلب الأول
دور رجال الدين في نشأة القاعدة القانونية
أولا- أسباب الاحتكام إلي رجال الدين :
1-تطور الديانة وتأصلها في النفوس :
يرجع الفضل في صنع وصياغة قواعد القانون في تلك المرحلة إلي رجال الدين وقد جاء ذلك كنتيجة لتطور الديانة وتأصلها في النفوس فقد ظهر رجال الدين باعتبارهم ممثلي العناية الإلهية يملكون القدرة علي الاتصال بالآلهة والتعرف علي مشيئتهم وتلقي أحكامهم مما أهلهم للقيام بدور الوسيط بين الناس وبين الآلهة وجعلهم يتولون بهذه الصفة سلطة الفصل في المنازعات بين الأفراد بجانب وظيفتهم الدينية ونتج عن ذلك أن تمتع رجال الدين لدي كثير من الشعوب بمركز ممتاز بل أن قوتهم أصبحت مساوية لقوة الدولة وجعل الكاهن منذ أقدم العصور إلي أحدثها ينافس الجندي المقاتل في سيادة الناس والإمساك بزمامهم حتي لقد راح الفريقان يتناوبان ذلك وحسبنا في التمثيل لذلك أن نسوق مصر ودولة اليهود وأوربا في العصور الوسطي.
وكان رب الأسرة باعتباره علي الديانة العائلية أول من قام بدور الوسيط بين أفراد أسرته وبين الأسلاف المؤهلين : علي أن دائرة العبادة قد اتسعت باتساع دائرة الجماعة وحلت العبادة العامة محل العبادة الخاصة عندما حلت الدولة كما سبق أن رأينا محل القبيلة في التنظيم السياسي وبالتالي فقد انتقلت السلطة الدينية التي كانت وقفا علي رب الأسرة إلي الملك أو الأمير الذي يتولي السلطة السياسية.
2-اختلاط القانون بالدين :
وكان الملك باعتباره رئيس الديانات يقرر القواعد الدينية تبعا لما يراه مطابقا لإرادة الآلهة وباعتباره المختص بالقضاء يفسر التقاليد القانونية طبقا لما تمليه عليه وظيفته الدينية فكان القانون والدين متصلين لصدورهما من مصدر واحد ولاستنادهما إلي أصل واحد هو رغبة الآلهة.
3-تطور الظروف الاقتصادية :
وقد ساعد علي التجاء الناس إلي الاحتكام إلي رجال الدين استقرار الإنسان في الأرض وارتباطه بها في مرحلة الزراعة ومحاولة الاستفادة من ثمار الملكية الخاصة المتمثلة فالقطعان الهائلة من المواشي أو الكميات الكبيرة من الحبوب أو المساحات الشاسعة من الأرض وذلك عن طريق تلاقي الخراب والدمار الذي تجره الحروب المتولدة عن الرغبة في الانتقام من هنا بدأ الشعور باحترام حقوق الآخرين ينمو في ضمائر الأفراد وجنح الجميع صوب السلم ونفرت النفوس من الالتجاء إلي الانتقام الفردي أو الأخذ بالثأر فظهر الاحتكام إلي طرف ثالث يتم اختياره بواسطة أطراف النزاع وقد يكون هذا الشخص الثالث حكيما في الجماعة صاحب خبرة أو رأي وقد يكون رئيس الجماعة أو أحد الكهنة.
4-ازدياد أهمية رجال الدين :
وقد كان لرجل الدين دور مرموق في هذا المجال نظرا لما كان للدين من اثر عظيم في النفوس جعل الأفراد ينظرون إلي الحكم الذي ينطق به رجل الدين في النزاع وكأنه وحي أو إلهام من الآلهة هذا بالإضافة إلي أن رجال الدين هم وحدهم الذين عرفوا الطقوس والشعار الدينية واحتفظوا بها سرا مكنونا مما جعلهم يحتكرون تماما العلم بالأحكام القانونية باعتبارها أحكاما إلهية وتفسيرها وتطبيقها.
ثانيا – القواعد التي يطبقها رجال الدين :
1-الأحكام الإلهية :
ولنا أن نتساءل عن طبيعة القواعد التي كان يطبقها رجال الدين عند الفصل في المنازعات المعروضة عليهم هل اتخذ القانون في تلك المرحلة صورة القواعد العامة المجردة كما هو الشأن في العصر الحديث في الواقع لم يكن القانون بالمعني الدقيق أي مجموعة القواعد العامة المجردة التي تنظم العلاقات الاجتماعية والتي يلتزم الأفراد باحترامها خشية الجزاء الذي توقعه السلطة العامة معروفا في القرون الأولي لتلك المرحلة فالعدالة كانت تولد مصادفة بمناسبة صدور الأحكام ودون أن يكون لها أي وجود مسبق تجسده نصوص القانون وبعبارة أخري فإنه لم تكن هناك قواعد قانونية محددة سلفا وإنما كان رجل الدين يلجأ إلي التشاور مع غيره من الكهنة أو يصدر حكمه متأثرا بما يحيط به من معتقدات وأفكار وفي جميع الأحوال فإن الأحكام الصادرة من رجال الدين كانت تنسب إلي الآلهة ولذلك فقد اتخذت القاعدة القانونية صورة الحكم الإلهي أي الحكم الذي ارتضته الآلهة وأوحت به إلي رجل الدين.
ومن ناحية أخري فإن الحكم الإلهي الذي تتجسد فيه العدالة كان يصدر في كل نزاع علي حدة ولم يكن يسري علي الحوادث المماثلة للحادث الذي صدر من أجله ومن هنا فقد كان القاضي في حاجة دائما إلي استطلاع رأي الآلهة بصدد كل قضية تعرض عليه فهو لا يستند في حكمه كما سبق القول إلي قاعدة موضوعة ومحددة سلفا وإنما يقوم فقط بدور الوسيط بين الإله والناس ليبلغ إليهم مشيئته الإلهية.
أما عن طريقة استطلاع رأي الآلهة فقد تعددت الوسائل وتنوعت باختلاف الشعوب ففي مصر القديمة مثلا كان يجري العمل في القضاء علي أن يقوم رئيس كهنة الإله آمون باستطلاع رأيه حول ما إذا كان المتهم بريئا أم مذنبا وكان الإله آمون يجيب بتحريك ذراعيه أو رأيه بطريقة آلية تتم بمعرفة الكهنة  أما بالإيجاب أو النفي وكان كهنة اليهود قبل عهد موسي عليه السلام إذا عرضت عليهم قضية يتصلون بالآلهة ويحركون تماثيلهم فيجيبونهم بإشارات خاصة بالحكم الواجب النطق به ويقرر الباحثون أن اليهود قد تأثروا في هذا الصدد بما كان يجري عليه العمل في مصر الفرعونية ونجد نفس الفكرة قائمة أيضا عند القبائل الصلتية التي كانت تقطن بلاد الغال وعند الهنود حيث وجدت طائفة من الكهنة تنتحل ملكتي الطب والسحر وكان الأفراد يعتقدون أنها تتصل بالآلهة وتتعرف علي مشيئتهم ومن ثم فإن الحكم الصادر منها يرجع مصدره إلي القدرة الإلهية.
وأخيرا فقد لجأت بعض الشعوب القديمة مثل الرومان إلي استعمال صيغ وطقوس معينة شبيهة بصيغ الأدعية والصلوات اعتقادا منها بأن هذه الصيغ وتلك الطقوس هي التي تظهر إرادة الآلهة وتبرزها إلي حيز الوجود وبالتالي تعبر عن العدالة وتخلق القانون.
2-السوابق الدينية :
ظهر الحكم القانوني إذن في بداية هذه المرحة في صورة حكم إلهي يتجدد في كل مرة يعرض فيها النزاع علي القاضي أو رجل الدين ولكن لما كانت المجتمعات البدائية مجتمعات بسيطة وحالية من التعقيد فكان من الطبيعي أن يتكرر وقوع الحوادث المتشابهة باطراد ملحوظ وقد ترتب علي ذلك أن أصبح الحكم الذي ينطبق به رجال الدين متشابها أو متحدا في كل نوع من أنواع هذه الحوادث كالسرقة أو القتل أو البيع .. الخ وتكونت بالتالي نوع من العادات العامة أو السوابق القضائية وإن كان مصدر القاعدة القانونية لازال وحي الآلهة وإرادتهم.
ويرجع تطابق الأحكام في الحالات المتشابهة إلي عدة أسباب نذكر بعضا منها فيما يلي :
1-  أن القاضي أو رجل الدين نفسه كان يعتقد أن الآلهة هي مصدر ما ينطبق به من أحكام ولم يتصور أنه قادر علي خلق القواعد التي تنظم سلوك الأفراد في المجتمع أو أن هذه القواعد يمكن أن تنشأ بطريق تلقائية تحت تأثير الظروف الاجتماعية والحاجة الاقتصادية ولذلك فقد سيطرت عليه فكرة الالتزام بأحكامه السابقة خشية غضب الآلهة وسخطهم عليه إذا حاد عنها.
2-  أن الإنسان بطبيعة يميل إلي السير علي ما ألفه من عادات وينفر من التجديد فهو في حياته لا يحب الانحراف عن شئ يعرفه إلي شئ يجهله خاصة إذا اتخذ هذا الشئ صورة قواعد تنظيمية تقيد من سلوكه وتحد من تصرفاته وقد عبر عن ذلك ول ديورانت بقوله إن الغرائز والعادات والتقاليد والأوضاع الاجتماعية كلها تحدد وفق قانون اقتصادي يستغني بالقليل عن الكثير لأن العمل الآلي هو أنسب طريقة يستجيب بها الإنسان للمثير الخارجي إذا تكرر أو للموقف المعين إذا تجدد حدوثه أما التفكير الأصيل والتجديد في السلوك فهو اضطراب في مجري الاطراد ولا يستطيعه الإنسان إلا في الحالات التي يريد فيها أن يغير من سلوكه المألوف بحيث يلائم الموقف الذي يحيط به أو في الحالات التي يأمل فيها أن يكافأ علي تجديده وتفكيره كسبا موفورا.
3-  وأخيرا فإن رجل الدين لم يكن مجرد قاضي يفصل في الخصومات فحسب وإنما كان يعتبر في نفس الوقت مشرعا يتلقي القوانين عن طريق الوحي الإلهي ويتولي تنفيذ الحكم الذي يصدره لمصلحة أحد المتخاصمين ويعني ذلك أن القاضي أو رجل الدين كان يجمع بين يديه السلطات المدنية الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية مما يسر عليه الاحتفاظ في ذاكرته بالأحكام الملهمة وتطبيقها علي الحوادث المتشابهة.
3-العادات الدينية :
وقد وصل القانون إلي نهاية تطوره في تلك الفترة عندما اكتسبت العادات العامةأو السوابق الدينية بمرور الزمن قدسية خاصة وأخذت تنتقل من السلف إلي الخلف عبر الأجيال المتعاقبة في صورة عبارات موجزة وصيغ محددة تعبها الذاكرة حتي رسخت في نفوس الأفراد وأصبحت تحتل نفس المكانة التي تحتلها القوانين بالنسبة للشعوب المعاصرة.
وقد زاد من قوة هذه العادات وقدسيتها أن مرجعها مازال وحي الآلهة وإيراداتها وذلك علي الرغم من أنها أصبحت تمثل قواعد مجردة بعيدة عن الملابسات والظروف التي دعت إلي وجودها أو صياغتها ذلك أنه إذا أضيف إلي هذا الأساس الطبيعي وهو التقاليد تأمين يأتيه من السماء عن طريق الدين وأصبحت تقاليد آبائنا هي كذلك ما تريده لنا الآلهة من سلوك عندئذ تصبح التقاليد أقوي من القانون ويبعد الإنسان عن حريته البدائية بعدا جوهريا.
الخلاصة إذن أن القانون قد استقر في أواخر هذه المرحلة في صورة تقاليد دينية يطبقها القاضي كلما عرضت عليه مسألة تدخل في نطاقها وهذه التقاليد لم ترق بعد إلي مستوي القواعد العرفية لأنها مازالت تستمد قوتها من صفتها الدينية ومن المصدر الإلهي المنسوبة إليه وليس من الشعور العام بوجود جزاء يترتب علي مخالفتها.
المطلب الثاني
آثار النشأة الدينية للقانون
أولا: الجزاء :
فقد ترتب علي الصيغة الدينية التي اصطنع بها القانون في تلك المرحلة أن أصبح الجزاء الذي يوقع علي من يخالف قاعدة قانون جزاء دينيا يتمثل في بعض الوسائل التي ابتدعها رجال الدين حتي يضمنوا احترام المتخاصمين لأحكامهم ومنها الطرد من حظيرة الديانة أو استنزال لعنة الآلهة.
وقد احتفظ الجزء بطبيعة الدينية حتي بعد ظهور الدولة وقيامها بحفظز النظام داخل المجتمع فالقانون الروماني مثلا كان ينص علي جزاء ديني إلي جانب الجزاء المدني الذي يوقع علي من يخالف قاعدة قانونية مثل ذلك تلك العقوبة المعروفة تحت اسم الرجل المنبوذ والتي كانت تطبق في بعض حالات القتل فبمقتضي هذه العقوبة يصبح دم المحكوم عليه مهدورا وتصادر أمواله لصالح الآلهة ويطرد من دائرة المجتمع وكانت عقوبة الطرد من دائرة الجماعة ومن رحمة الآلهة معروفة لدي الجرمان ونفس الفكرة نجدها أيضا عند الهنود حيث كان قانون مانو يحتوي بجانب الجزاءات المدنية علي جزاءات دينية تصيب المذنب بعد وفاته ولا يستطيع اتقاءها إلا إذا قدم كفارات عن ذنبه وتظهر هذه الفكرة بوضوح في الشرائع السماوية كالقانون اليهودي والشريعة الإسلامية حيث نجد أنه بجانب العقوبات المدنية التي توقع علي من يخالف قاعدة قانونية بطبيعتها توجد عقوبات دينية تلحق بالمذنب سواء حال الحياة كالكفارة مثلا أو بعد الوفاة في الحياة الآخرة.
ثانيا – الإثبات :
وقد ترتب علي ظهور القانون في أحضان الديانة واتخاذه صورة التقاليد الدينية أن اصطبغت وسائل الإثبات هي الأخري بالصبغة الدينية فكان الأفراد يلجأون دائما للآلهة بطريقة أو بأخري معتقدين أنها ستظهر الطرف صاحب الحق في النزاع ومن أمثلة ذلك محاولة إثبات الحق عن طريق الخضوع لمبدأ المحنة بأن يختار كل من المتنازعين مثلا وعاء من وعاءين أحدهما به طعام مسموم ومن يختار هذا الوعاء الأخير يعتبر خاسرا لدعواه.
وقد ترك الإثبات بطريق المخنة أثره في كثير من القوانين القديمة فأخذت الشريعة اليهودية به كما أخذ به قانون مانو الهندي وقانون حمورابي بل أن هذا المبدأ استمر قائما في القانون الإنجليزي طيلة العصر الأنجلو سكسوني 449 – 1066 ميلادية وكانت المحكمة تلقي باختبار المحنة علي من تختاره من الطرفين في أي دعوي غير أنه كان يتبع غالبا في الدعوي الجنائية ويكلف غالبا بأدائه المتهم وذلك بأن يمتحن بواحدة من التجارب التي يعتقدون بتدخل القوة الإلهية فيها كتجربة النار التي يكلف فيها المتهم أن يقبض بيده علي حديد ملتهب أو أن يخطو بقدمه علي حديد محراث محترق ثم يضمد القسيس جرحه بصورة خاصة حتي إذا شفي في ثلاثة أيام فهو برئ وإلا فهو مذنب وأخيرا فقد عرف هذا النظام أيضا في أوروبا في العصور الوسطي باسم حكم الله وكانت المبارزة القضائية من أهم تطبيقاته فعد تعذر الوصول إلي الحقيقة كان يلجأ الطرفان المتنازعان إلي المبارزة في ساحة المحكمة معتقدين بأن الله سيكشف عن المجرم ويتدخل لنصرة المظلوم.
وقد ترتب علي اختلاط القانون بالدين كذلك أن قواعد القانون كانت تعتبر شأنها في ذلك شأن القواعد الدينية سرا مكونا يحتفظ به الكهنة لأنفسهم ولا يجوز لأحد غيرهم الإطلاع عليه فإذا أراد أحد الأفراد الإطلاع علي حكم القانون بصدد مسألة من المسائل طلب ذلك من الكهنة وربما كان السبب في ذلك راجعا إلي الخوف من التعديل أو التحريف في القواعد القانونية الأمر اذلي يستتبع غضب الآلهة وحلول نقمتهم بأفراد الجماعة وقد سادت هذه الظاهرة لدي بعض الشعوب القديمة كالإغريق والرومان بل أن بعض هذه الشعوب كالهنود مثلا قد ذهب إلي حد تحريم سماع أو تلاوة شئ من الكتب المقدسة (التي تحوي صيغ الأدعية والصلوات الدينية وصيغ الأحكام القانونية) أمام بعض طبقات الشعب وإذا جرؤ أحد من أفراد تلك الطبقات علي استراق السمع إلي ما يتلي من تلك الكتب أو حاول هو تلاوة شئ منها أصيب بالكوارث وحلت به لعنة الآلهة.
رابعا : عدم قابلية القانون للتعديل :
كما ترتب علي النشأة الدينية للقانون أن أصبحت قواعده بمنأي عن التعديل أو التغيير فهذه القواعد قد أصدرتها الآلهة أو أقرت أحكامها وعبرت عن رضائها عنها ومن ثم فإنها يجب أن تتمتع بصفة الخلود أو الأبدية فإذا ما أصبحت عاجزة عن حكم المجتمع وتنظيم أموره نظرا لتطور ظروفه الاجتماعية والاقتصادية الخ فإن رجال الدين يجب أن يعملوا علي تفسيرها علي نحو آخر أو إضافة قوانين جديدة إليها دون أن يتعرضوا صراحة لإلغاء هذه القواعد البالية ونجد أثر ذلك واضحا لدي الشعوب القديمة فقانون الألواح الأثني عشر عند الرومان لم يلغ القوانين الملكية التي كانت سارية قبل إصداره وإنما ظلت قائمة وواجبة التطبيق كما أن قانون الألواح الأثني عشر ذاته لم يلغ علي الرغم من تغير الظروف التي صدر فيها وإنما أخذ الفقهاء الرومان في تطوير نصوصه تحت ستار التفسير واعتبروه أساسا للقانون الخاص والقانون العام فيما بعد وقوانين صولون لم تلغ قوانين داركون عند الإغريق ومجموعة قوانين مانو عند الهنود لم تلغ القوانين السابقة عليها فنجدها مثلا تحتفظ بالقانون القديم الذي يجعل الميراث من نصيب الابن الأكبر وتذكر بجواره قانونا آخر ينص علي قسمة الميراث بين الأخوة وقد نتج عن ذلك وجود كثير من التناقض بين نصوص وأحكام التشريعات القديمة وكان يقع علي عاتق رجال الدين في بادئ الأمر ثم الفقهاء من بعدهم عبء رفع هذا التناقض.
خامسا : ارتباط الحقوق بقواعد الديانة :
ومن نتائج النشأة الدينية للقواعد القانونية أن القانون في تلك المرحلة لم يكن يهدف إلي تحقيق العدالة بقدر ما كان يرمي إلي إرضاء المبادئ الدينية لذلك جاءت القواعد القانونية مطابقة لروح الديانة وأن جافت العدالة في بعض الأحيان ونجد أثر ذلك في القانون الروماني القديم حيث كان الخروج عن سلطة رب الأسرة يعتبر خطيئة تستوجب سخط الآلهة والاقتصاص ممن ارتكبها حتي لو كان السبب في ذلك هو تعسف رب الأسرة في استعمال سلطته وكان الزواج والطلاق والعتق والتبني والتقاضي نظما مصبوغة بالصبغة الدينية وفي نطاق الالتزامات والعقود نجد أن الحق لا ينشأ بين الطرفين المتعاقدين إلا بعد التلفظ بألفاظ معينة والقيام ببعض الشعائر التي تقام أصلا لإرضاء الآلهة وكان الحق ينشأ بمجرد القيام بتلك الإجراءات دون تبديل أو تغيير حتي ولو كانت إرادة أحد المتعاقدين قد شابها عيب من العيوب أو لم يكن هناك تعادل بين التزامات المتعاقدين.
سادسا : سلطة الحاكم مستمدة من الآلهة :
ارتبط نظام الحكم في تلك المرحلة ارتباطا وثيقا بالمعتقدات الدينية التي تنظر إلي الملك أو الحاكم علي أنه إله بين البشر أو علي الأقل ممثل للآلهة فكان نظام الحكم يقوم علي فكرة الحق الإلهي المطلق في السلطة وليس علي أساس إرادة الشعب باعتباره مصدر السلطة كما تقول بذلك النظريات الديموقراطية الحديث وحسبنا في التمثيل لذلك مصر وفارس والهند والصين وبابل حيث كان الملوك والأباطرة ينظر إليهم باعتبارهم آلهة وقد وجدت فكرة الحق الإلهي في السلطة كذلك عند الرومان الذين كانوا يقدسون الإمبراطور ويعدونه إلها بل أن المسيحية في أول عهدها قد أقرت هذه الفكرة وإن حاربتها فيما بعد ثم استند إليها الملوك في أوروبا خلال القرن السادس عشر والقرن السابع عشر لتبرير سلطاتهم المطلقة واختصاصاتهم غير المقيدة.
الفصل الثالث
مرحلة التقاليد العرفية
المبحث الأول
تطور المجتمع
المطلب الأول
الحالة الاقتصادية
1-تطور الزراعة والصناعة والتجارة :
تتميز هذه الفترة بتطور الزراعة وازدياد أهميتها في حياة الجماعات الاقتصادية فقد زادت إنتاجية الأرض بسبب ابتكار أساليب جديدة لتنمية الاستغلال الزراعي وتنظيم عمليات الري عن طريق شق القنوات والترع وإقامة السدود واستعمال المخصبات الطبيعية.
كما زادت مع الزمن خبرة أصحاب الحرف فازدهرت الصناعة وكثر استعمال المعادن من نحاس وحديد وبرونز .. الخ بعد طرقها وتحويرها بواسطة النار.
وقد ترتب علي تطور الزراعة والصناعة أن انتشر مبدأ التخصص في الإنتاج وتقسيم العمل الذي بدأ في الظهور منذ أواخر العصر الماضي فقد أخذ الأفراد والجماعات يتأملون فيما حابتهم به الطبيعة من إمكانيات وكفاءات لا تتوافر لدي أحد سواهم وبدأ كل شعب يتخصص في إنتاج السلع زراعية أو صناعية التي لا يكلفه إنتاجها ما يكلف جيرانه وذلك بفضل ما توفر لديه من استعدادات خاصة أو بفضل قربه من المواد المطلوبة كما تخصص بعض الأفراد داخل كل شعب في إنتاج سلع معينة وممارسة حرف أخري غير الزراعة فظهرت الصناعات والفنون وأصبحت الأرض لا تشكل عنصر الثروة الرئيسي كما كان الحال من قبل وقد نتج عن ذلك أن اختفي مبدأ الاكتفاء الذاتي وبدأت كل جماعة أو كل فرد داخل الجماعة يقدم فائض إنتاجه لجيرانه في مقابل ما ينتجونه هم وبذلك ظهر التبادل التجاري.
2-ظهور الأسواق ومراكز التجارة :
وقد ساعد تمهيد الطرق علي انتقال السلع من مكان إلي مكان فأقيمت مراكز التجارة والأسواق والمتاجر وكانت هذه الأسواق تقام في أول الأمر من حين لآخر في غير نظام ثم أقيمت علي فترات معلومة وبمرور الزمن أصبحت دائمة وجعل لها حكام يشرفون عليها وهيئات قضائية تفصل في المنازعات التي تثور فيها.
3-تطور العملة (من العملة السلعية إلي العملة المعدنية ) :
أما عن وسيلة التعامل فقد كانت تتمثل في بادئ الأمر في بعض السلع التي يطلبها كل إنسان ويقبلها كل بائع ثمنا لبضاعته كالملح والجلود والفراء والحلي والآلات والأسلحة ورؤوس الماشية والعبيد وتسمي هذه المرحلة لذلك بمرحلة العملة السلعية أو السلع المعيارية ونري أثر هذه المرحلة لدي كثير من الشعوب القديمة فعند الرومان مثلا نجد أن اللفظ المستعمل للدلالة علي الماشية يشبه إلي حد كبير اللفظ المستعمل للتعبير عن المال وكانوا يطبعون صورة ثور علي نقودهم القديمة والكلمة التي تستعملها اللغة الإنجليزية لرأس المال ترتد في تاريخها عن طريق اللغة الفرنسية إلي الكلمة اللاتينية ومعناها ملك وهذه الكلمة بدورها مشتقة من Caput التي تعني رأس والمقصود رأس الماشية.
وبعد أن اكتشفت المعادن أخذت تحل شيئا فشيئا محل سائر الأشياء في استعمالها معيارا للقيمة فاستخدمت سبائك النحاس والبرونز والحديد كمعيار للقيمة ثم انتهي هذا التطور باستعمال الذهب والفضة في صورة عملة مضروبة لأنهما يمثلان قيمة كبرة في حيز صغر ووزن قليل مما أدي إلي إضفاء قدر كبير من المرونة علي المعاملات التجارية ويرجع البعض أن الانتقال من عهد السلع المعيارية أو العملة السلعية إلي عهد العملة المعدنية لم يتحقق إلا خلال عصر التاريخ المدون.
4-انعكاس التقدم الاقتصادي علي النظم القانونية :
وقد انعكس هذا التقدم في الحياة الاقتصادية للشعوب القديمة علي نظمها القانونية فظهرت تصرفات قانونية جديدة للوفاء بالمطالب والاحتياجات التي تتمخض عنها ظروف الحياة المدنية مثل البيع والإيجار والعمل والوديعة والعارية والاستصناع كما ظهر نظام البنوك حيث تتم عمليات إيداع واقتراض النقود.
المطلب الثاني
الحالة الاجتماعية
نتج عن التطور الاقتصادي واعتماد الشعوب علي الصناعة والتجارة بجانب الزراعة في حياتها الاقتصادية أن توافرت أسباب العيش لعدد أكبر من الناس فازدادت كثافة السكان وارتفع معدل نموها بصورة واضحة.
وفي هذا العصر نجد أن حدة الفوارق بين الطبقات قد ازدادت عن ذي قبل نتيجة تركز الثروات في أيدي البعض دون البعض الآخر فكان هناك الأحرار والأرقاء وانقسم الأحرار بسبب نسبهم أو حرفتهم ومهنتهم إلي أغنياء وفقراء وكان هناك الأشراف الذين ينتمون إلي الأسر القديمة العريقة بجانب العامة وساعد تقدم الصناعة وتعقد الآلات علي إخضاع الضعيف العاجز إلأي مشيئة القوي الماهر وكان كلما ظهر اختراع جديد اصبح سلاحا جديدا في أيدي الأقوياء فزاد من سلطانهم علي الضعفاء واستغلالهم ثم عمل التوارث علي اتساع الهوة بأن أضاف إلي الامتياز في الفرص السانحة امتيازا في الأملاك فقسمت المجتمعات التي كانت يوما متجانسة إلي عدد لا يحصيه النظر من طبقات وأوساط وأحس الأغنياء والفقراء بغناهم أو فقرهم إحساسا يؤدي إلي التشاحن وأخذت حرب الطبقات تسري خلال عصور التاريخ كأنها خيط أحمر وإزاء هذا الوضع كان الحكام يتدخلون لتنظيم الطبقات وحماية الأملاك ولكنهم كانوا يميلون دائما نحو حماية الطبقات القوية علي حساب الطبقات الضعيفة لذلك نجد النبلاء في معظم المجتمعات القديمة يتمتعون بامتيازات مالية وقضائية ودينية لا يتمتع بها العامة والرقيق فكانوا يعفون من دفع الضرائب ومن أداء السخرة للملك وتمنح لهم الإقطاعات ويتميزون بمعاملة خاصة في مجال الجرائم والعقوبات تبدو في تخفيف الجزاء عليهم حال كونهم جناة وتشديده حال كونهم مجنيا عليهم وقد يتمتعون بامتيازات قضائية تتمثل في محاكمتهم أمام محاكم خاصة أو الاعتراف لهم بامتيازات معينة فيما يتعلق بإجراءات المحاكمة وقبل ظهور الديانات السماوية الكبري كان يعترف لأسر الأشراف بأن يكون لها ديانة خاصة بها بينما حرم ذلك علي عامة الناس.
المطلب الثالث
الحالة السياسية
وصلت الكثرة الساحقة من الشعوب خلال هذا العصر إلي مرحلة نظام الدولة وبذلك حلت رابطة الخضوع لسلطة واحدة وديانة واحدة محل رابطة القرابة التي كانت تسود نظام العشائر أو القبائل.
وقد عمل الملوك علي تركيز السلطات في أيديهم وذلك عن طريق الحد من نفوذ رجال الدين وطبقة الإشراف المكونة من رؤساء القبائل والعشائر فتولوا التشريع والقضاء والتنفيذ والإشراف علي المعابد وتقديم القرابين للآلهة كل ذلك بجانب سلطتهم العسكرية وفي عبارة واحدة فقد جمع الملوك بين أيديهم السلطتين الزمنية والدينية وترتب علي ذلك قيام صراع مرير بين الملوك من جهة وبين رجال الدين والإشراف من جهة أخري ما لبث أن انتهي لدي الشعوب الغربية بانتقال السلطة المدنية إلي أيدي الإشراف وقصر سلطة الملوك علي السلطة الدينية فقط وبذلك تحو نظام الحكم لدي هذه الشعوب من ملكي ديني إلي جمهوري أرستقراطي وانفصلت السلطة الزمنية عن السلطة الدينية وحسبنا في التمثيل لذلك مدينة روما القديمة حيث انتهي الصراع بين الملوك والأشراف بانتقال السلطة السياسية أو الزمنية إلي الإشراف وقيام النظام الجمهوري عام 509 ق.م أما سلطة الملك فقد انحصرت في دائرة الأمور الدينية ولذلك تطلق عليه النصوص اسم ملك القرابين.
أما في الشرق فقد انتهي الصراع بتغلب رجال الدين وسيطرتهم علي زمام الأمور حتي أن بقاء الملك في السلطة كان رهينا بمشيئتهم ومدي رضاهم عنه لذلك كانت أهم وظائف الدولة في أيديهم وكانت أجود الأراضي الزراعية ممنوحة لهم وحسبنا في التدليل علي ذلك سومر وبابل وسوريا ومصر وترتب علي ذلك أن انفصال السلطة الدينية عن السلطة الزمنية لم يتحقق لدي هذه الشعوب إلا في مرحلة متأخرة.
المبحث الثاني
ظهور التقاليد العرفية
1-الجزاء :
فقد ترتب علي تخلص القواعد القانونية من صبغتها الدينية أن اصبح الجزاء الذي يوقع عند مخالفة هذه القواعد جزاء مدنيا حالا توقعه السلطة العامة ولكن يلاحظ أن هذا التطور لم يكن عاما لدي سائر الشعوب ذلك أن بعض الشعوب الشرقية ظل يخلط ما بين قواعد القانون وقواعد الديانة وبالتالي فقد استمر عنصر الجزاء لدي هذه الشعوب متسما بالصبغة الدينية فالهنود لم يميزوا بين القاعدة القانونية والأوامر الدينية لا من حيث طبيعتها ولا من حيث الجزاء الذي يلحق بمن يخالفها ولذلك نجد أن قانون مانو كان خليطا من عقوبات وضعية وجزاءات دينية.
2-قابلية القانون للتعديل :
لم يعد القانون يتمثل في مجموعة من الأحكام أو الصيغ التي تنسب إلي الآلهة والتي لا تمتد إليها يد التعديل أو التغيير وإنما أصبح يتكون من مجموعة من التقاليد التي درج الناس عليها جيلا بعد جيل والتي تستمد قوتها الملزمة كما سبق القول من رضائهم الضمني بها وشعورهم بضرورة احترامها والسير علي منوالها ونتج عن ذلك أن اصبح القانون قابلا للتعديل كلما تغيرت الظروف المحيطة بالمجتمع فالعقل البشري الذي خلق القاعدة القانونية قادر علي تعديلها أو إلغائها طالما أن الحاجة التي دعت إلي وجودها قد تغيرت أو اختفت.
3-علانية القواعد القانونية :
وطالما أن القانون قد اصبح عملا من صنع العقل البشري وليس وحيا من الآلهة فليس ثمة داع لإضفاء طابع السرية علي نصوصه وتحريم تلاوته أو الإطلاع عليه ومن هنا نجد أن القانون خلال تلك المرحلة لم يعد سرا مكونا في صدور الكهنة بل أصبح علنيا ومعروفا من الناس ونتج عن ذلك أن تخصص بعض الأفراد في شرح القانون وتفسير ما غمض من نصوصه فظهر العرف كمصدر للقانون.
4-فلسفة نظام الحكم :
وقد انعكس هذا التطور في طبيعة القانون ومصادره علي فلسفة نظام الحكم لدي الشعوب المختلفة وأن كان ذلك لم يتحقق بصورة واحد لدي كافة الشعوب ففي الغرب نجد أن سلطة المحاكم لم تعد تقوم علي أساس أنه ممثل للالهة وبعبارة أخري فإن الديانة لم تعد هي مصدر السلطة كما كان الحال من قبل وإنما أصبح الحاكم يتم اختياره عن طريق الشعب وانتقلت السيادة بذلك من أيدي الآلهة إلي أيدي الأفراد مما أدي إلي ظهور المبادئ الديموقراطية ففي روما كان الحكام إبان العصر الجمهوري ينتخبون من قبل المجالس الشعبية بعد أن كان الملك في ظل العصر الملكي يتولي السلطة باعتباره ممثلا للآلهة ونفس الأمر أيضا نجده في المدن الإغريقية حيث كان يتم اختيار الحكام بواسطة جمعية المواطنين أما في الشرق مثل مصر وبابل فقد استمرت الديانة هي مصدر السلطة وقام نظام الحكم علي فكرة الحق الإلهي المطلق وإن كان من الملاحظ أن الحاكم خلال هذه المرحلة لم يعد يراعي في حكمه مصالح طبقة بعينها بل كان عليه أن يراعي مصلحة الجميع لأن الآلهة ستحاسبه عن ذلك.
5-ظهور وسائل إثبات جديدة :
كان الإثبات في ظل التقاليد الدينية يعتمد كما سبق أن رأينا علي بعض الأساليب أو الوسائل التي يعتقد الأفراد بتدخل القوة الإلهية فيها مثل التعرض لاختبارات المحنة واليمين .. الخ أما في هذه المرحلة فقد استحدثت وسائل إثبات جديدة كشهادة الشهود ومعني ذلك أن مشيئة الآلهة لم تعد هي الوسيلة الوحيدة للإثبات لأن إرادة الأفراد أصبحت تؤدي دورا هاما في هذا المجال. ولاشك أن هذا التطور في وسائل الإثبات يتفق مع حقيقة التغيير الذي طرأ علي طبيعة القواعد القانونية.
الفصل الرابع
تدوين القانون
المبحث الأول
أسباب التدوين وأهميته
أولا- نشر القانون :
بعد أن انتقلت الشعوب القديمة من مرحلة التقاليد الدينية إلي مرحلة القواعد العرفية أصبح القضاة لا يدعون الإلهام فيما ينطقون به من أحكام وإنما يطبقون قواعد العرف القائمة ولكنهم كانوا من طبقة الإشراف أي من تلك الأقلية التي استأثرت بالحكم وقد قضت ظروف متعددة أهمها جهل العامة وعدم معرفتهم الكتابة ورغبة الأقلية في الاحتفاظ بسلطنهم ونفوذهم أن اعتبر الإشراف أنفسهم حفظة القواعد القانونية والقائمين علي أمر تفسيرها وتطبيقها فاحتكروا علم القانون وأخذوا يفسرونه ويطبقونه علي نحو ما تمليه عليهم نزعتهم الطائفية أو بما توحي به شهواتهم الخاصة وقد ترتب علي ذلك أن شعرت طبقة العامة بالغبن فطالبوا بتدوين القواعد العرفية ووضعها في نصوص محددة حتي تكون معرفتها في متناول الجميع وحتي يعلم كل فرد في المجتمع حقوقه وواجباته بطريقة لا لبس فيها ولا غموض وقد روي لنا المؤرخون القدمار مثل هيرودون واسترابون وديودور الصقلي تفاصيل كثيرة عن هذا الصراع الذي نشأت بين الإشراف والعامة في مدن إيطاليا وآسيا وفي اليونان علي الأخص حيث توصلت طبقة الإشراف في أثينا باحتكارهم تفسير القواعد القانونية وتطبيقها إلأي التحكم في تحديد سعر الفائدة وإيقال كاهل العامة بالديون وإلي الاستئثار بالأراضي مما أثار سخط العامة علي نظام حكمهم.
ثانيا – تعدد القضاة :
لا تظهر فائدة التدوين في حالة قيام فرد واحد بالفصل في المنازعات التي تثور بين أفراد الجماعة كما كان الحال بالنسبة لرب الأسرة ورئيس القبيلة أو العشيرة في العصور السابقة أما في حالة تعدد المحاكم نتيجة اتساع رقعة الدولة وزيادة عدد القاطنين فيها فإنه لا مندوحة من وضع القوانين في صورة مجموعات مكتوبة وموحدة حتي لا يخضع تطبيقها وتفسيرها للأهواء أو النزوات الفردية.
ثالثا – حفظ القانون من الضياع :
وأخيرا فقد لجأت الشعوب القديمة إلي تدوين قوانينها حفظا لها من الضياع أو النسيان فالذاكرة الإنسانية لها حدود وقدرتها علي الحفظ ليست مطلقة ومن هنا كان التدوين أجدي وأقدر علي المحافظة علي تراث الشعوب القانوني.
هذه الأسباب وغيرها هي التي دفعت الشعوب القديمة إلي تدوين قوانينها في مجموعات والواقع أن قيمة هذه المجموعات لا تكمن في وضوح عباراتها أو في بساطة صيغتها الفنية بقدر ما ترجع إلي أنها تعد علامة صادقة علي مدي التطور الاجتماعي والسياسي الذي وصلت إليه الأمم القديمة والذي كان من نتيجته نقل فكرة القانون من دائرتها الدينية القديمة إلي دائرة سياسية بحتة حيث تخلص القانون من سيطرة الكهنوت واعترفت الأقلية الحاكمة بمركز الأغلبية المحكومة.
المبحث الثاني
المدونات القديمة
المطلب الأول
المدونات الشرقية
الفرع الأول
قانون حمورابي
الظروف التي صدر فيها القانون :
كانت بلاد ما بين النهرين تتكون من عدد من الدويلات علي رأس كل منها أمير وقد تمكن حمورابي من توحيد هذه الدويلات وإخضاع البلاد كلها لنفوذه وسلطانه وكان لابد أن يعقب هذه الوحدة السياسية وحدة في القوانين وجهات القضاء في البلاد ومن ثم فقد وجدت حركة تجميع للتقاليد والأعراف المختلفة انتهت بإصدار قانون حمورابي الشهير كما حلت المحاكم الملكية محل محاكم المعابد الأكادية والمحاكم المدنية في سومر وتوحدت الإجراءات أمام هذه المحاكم.
مضمون القانون
يضم القانون كما سبق القول 282 مادة وهذه المواد ليست مرتبة في أبواب وفصول بحسب موضوعها كما هو الشأن في التشريعات المعاصرة وعلي الرغم من قلتها فقد أحاطت بكل القواعد المتعلقة بسائر فروع القانون فهي تتناول تنظيم الأحوال الشخصية من زواج وطلاق وتبني ووصاية وبنوه والمعاملات من مداينة وبيع وإجارة ومزارعة ووديعة والعقوبات المقررة لبعض الجرائم كالاعتداء علي الأشخاص وعلي الأرقاء وعلي الأموال ويحتوي فوق ذلك علي بعض الأحكام التجارية والحربية.
الخصائص التي تميزه :
1-من حيث الصياغة :
إن أول ما يلفت النظر في تشريع حمورابي هو صياغة نصوصه القانونية في صورة جمل شرطية تبدأ بأداة الشرط إذا ثم يفترض المشرع واقعة معينة ويورد الحكم علي تلك الواقعة من ذلك مثلا ما تنص عليه المادة الرابعة عشر من أنه إذا فرض أن شخصا خطف ابنا لآخر يحكم عليه بالموت ويعد هذا الأسلوب العلمي في الصياغة من أهم ما يميز قانون حمورابي عن غيره من القوانين التي ظهرت في بقع أخري من العالم كالقانون الهندي وقانون الألواح الاثني عشر عند الرومان والتي كان يغلب عليها الطابع الشعري.
2-من حيث المضمون :
كما يتميز هذا القانون أيضا بكونه تجميعا للتقاليد العرفية الني كانت سائدة في سومر وأكاد قبل صدوره وقد حاول حمورابي أن يوفق بين العادات والتقاليد المتعارضة ولكنه لم يتمكن كلية من تحقيق هذا الهدف ولذلك نجد أن القانون في بعض الحالات يضع قاعدتين مختلفتين لمسألة واحدة هذه الازدواجية في الحلول لا تعني في الواقع أن قانون حمورابي كان يأخذ بمبدأ شخصية القوانين بل علي العكس من ذلك كان يأخذ بمبدأ إقليمية القوانين مع وضع أكثر من قاعدة للمسألة الواحدة وإعطاء كل مواطن من مواطني الإمبراطورية حق الخيار بين هذه القواعد المتعددة.
3-من حيث الجزاء :
وقد اتسمت الأحكام الجنائية في قانون حمورابي بطابع القسوة لذلك نجد أن أتفه الجرائم كان يعاقب عليها بالإعدام فالمادة الأولي منه تقرر في سذاجة أنه إذا اتهم رجل آخر بجريمة قتل ولم يستطع إقامة الدليل عليها قتل أما المادة الثالثة منه فتنص علي أنه إذا شهد شاهد بشهادة زور في قضية ولم يستطع إثبات قوله وكانت القضية تتصل بالحياة يقتل وكثيرا ما كان المتهم يحرق حيا أو تقطع يده أو أصابعه كما أقر هذا القانون مبدأ القصاص أي العين بالعين والسن بالسن فنص علي وجوب قتل البناء الذي يبني بيتا لأسرة فيتداعي ويتسبب في قتل صاحب البيت فإذا كان القتيل هو ابن صاحب البيت فإن عقوبة القتل توقع علي ابن البناء رغم أنه لا علاقة له بما حدث.
وأخذ قانون حمورابي بمبدأ المحنة في الإثبات فتنص المادة الثانية منه علي أنه إذا أتهم رجل آخر بالسحر ولم يستطع إقامة الدليل اختبر بامتحان النهر فيرمي نفسه فيه فإن غلبة النهر علي أمره استولي خصمه علي ضيعته وإن أظهر النهر أنه برئ وخرج سالما فإن المدعي يقتل ويأخذ المدعي عليه ضيعته.
علي أنه يجب ألا يفهم من ذلك أن قانون حمورابي كان بعيدا عن تحقيق العدالة ذلك أنه يحوي كثيرا من الأحكام التي تفوق في عدالتها أحكام قانون الألواح الاثني عشر رغم أنه يسبقه بما يزيد عن اثني عشر قرنا.
4-من حيث كعلاقته بالدين :
رغم أن النصب الذي نقش عليه القانون يشير في وضوح تام إلي أن حمورابي قد تلقي نصوصه من الإله شماس إلا أن الرأي الراجح بين الفقهاء يقرر أن هذا القانون لم يكن قانونا دينيا بالمعني الذي نراه بالنسبة لبعض الشرائع القديمة كالشريعة الموسوية والقوانين الهندية مثلا فقد جاءت نصوصه خالية من الأحكام الدينية وذلك باستثناء بعض الامتيازات المدنية التي قررها لطبقة الراهبات في معاملتهن ولذلك ينظر إليه البعض علي أنه لائحة سلام الغرض منها هو تسهيل عملية الاندماج بين سومر وآكاد.
5-من حيث طبيعة قواعده :
ويلاحظ علي قانون حمورابي أنه لم يكن يتضمن قواعد عامة ومجردة كما هو الشأن في التشريعات الحديثة وإنما كانت أحكامه تعالج حالات خاصة ومحدودة يتعذر الاستنباط منها أو القياس عليها من ذلك مثلا أنه يتحدث عن عقوبة خطف ابن رجل حر وهو الموت ولكنه لا يبين ما هو الحل بالنسبة لخطف عبد ويعاقب الابن إذا ضرب أباه بقطع يده ولكنه لا يتحدث عن قتل الوالدين وقد دفع هذا المنهج بعض الفقهاء إلي القول بأن عبارة دينات مشاريم التي استعملها حمورابي للتعبير عن تشريعه وترجمتها الحرفية هي أحكام القانون لا تعني التقنين بمعناه الدقيق كما أن كلمة التي تترجم بما معناه تشريع.
إنما تعني حكم قضاء ولا ينصرف معناها إلي القاعدة العامة فمن المحتمل إذن أن مجموعة حمورابي كانت تحتفظ بصدي الأحكام القضائية بينما يري بعض العلماء أنه من المحتمل أن تكون كلمة دينات هي نفسها كلمة دين العربية ومعناها واسع جدا بحيث يشمل الدين بمعني القضاء والدين بمعني الجزاء والدين بمعني القانون.
6-من حيث التفرقة الطبقية :
وأخيرا فقد اقر قانون حمورابي تقسيم المجتمع البابلي إلي طبقا ثلاث : طبقة الأحرار والطبقة الوسطي (الموشكينو) وطبقة الأرقاء ونص علي أن حقوق الفرد وواجباته تختلف تبعا للطبقة التي ينتمي إليها وجدير بالذكر أن مركز الرقيق في قانون حمورابي كان أحسن بكثير من مركزه في الشرائع القديمة ومنها القانون الروماني فمقد اعترف له القانون بالحق في الزواج من أفراد طبقته أو من طبقة الأحرار كما أجاز له تملك الأموال وممارسة التجارة ومعني ذلك أن العبد كان يتمتع في ظل هذا القانون بشخصية قانونية مقيدة.
الفرع الثاني
قانون مانو
تاريخ وضعه :
وقد اختلف العلماء حول تحديد التاريخ الذي وضع فيه قانون مانو فأرجعه البعض إلي سنة 1820ق.م ويرجعه البعض إلي الف سنة قبل الميلاد ويري آخرون أنه قد وضع في تاريخ لاحق لميلاد المسيح ويرجع غالبية الفقهاء أن يكون هذا القانون قد وضع في القرن الثالث عشر قبل الميلاد.
الغرض من وضعه :
وقد وضع هذا القانون في بادئ الأمر لكي تسترد به فئة البراهمة في حياتها الدينية والقانونية فكان لهم بمثابة الدليل الذي يبين لهم قواعد السلوك في المجتمع البشري ولكن بمرور الزمن أصبح هذا القانون عام التطبيق بحيث التزم كل أفراد المجتمع الهندي بالسير علي هديه.
الخصائص التي تميزه :
1-الخلط بين القانون والدين والأخلاق :
كتب قانون مانو في أسلوب شعري يتكون من 2685 بيتا وهو يهتم بتنظيم أوجه السلوك المختلفة في المجتمع دون ما تفرقة بين ما كان منها متصلا بالدين والأخلاق وما كان متصلا بالقانون والاقتصاد فقد بين كيف خلق براهما هذا الكون كما بين للإنسان القواعد الواجبة الاتباع منذ ولادته حتي بعد مماته سواء ما تعلق منها بأمور الدين أو بنشاطه الدنيوي فنجد فيها بيانا بالواجبات الدينية كالصوم والصلاة والطهارة وتقديم القرابين ونجده يحدد واقع المجاملات وحسن السير في المجتمع فيبين ألوان الأزياء وكيفية رد التحية وتسمية المواليد وغير ذلك وهو يحوي كثيرا من الحكم الأخلاقية والأفكار التي تتصل بفنون الحرب والسياسية والتجارية ويبين العقوبات التي تصيب من يخالف قواعده وهي خليط من جزاءات دنيوية أو مدنية توقع علي المخالف حال حياته وأخري دينية أو أخروية تلحق بالشخص في حياته الآخرة ولا يستطيع تجنبها إلا إذا قدم كفارات عن ذنبه.
2-النص علي التفرقة الطبقية :
ساعد قانون مانو علي تعميق الفوارق بين طبقات المجتمع الهندي حتي غدت هذه الطبقية تمثل جزء من العقيدة الدينية فقد قسم المجتمع إلي طبقات أربع هي طبقة الكهنة البراهمية طبقة المحاربين طبقة الزراع والتجار وطبقة العمال ونص علي أن حقوق وواجبات الفرد تختلف باختلاف الطبقة التي ينتمي إليها فالحقوق العامة مثلا قد منحت كاملة لطبقة الكهنة البراهمة ومنح بعضها لطبقة المحاربين بينما حرمت منها كلية الطبقتان الثالثة والرابعة ويظهر هذا التفاوت بين الطبقات بصورة أكثر وضوح في نطاق الحقوق الخاصة حيث يعترف القانون مثلا بنظام تعدد الزوجات ولكنه يمنح للكهنة البراهمة حق التزوج بأربع نساء وللمحاربين بثلاث وللزراع والتجار بامرأتين أما العامل باعتباره من أفراد الطبقة الدنيا فليس له الحق في الزواج بأكثر من واحدة.
وبجانب هذه الطبقات الأربع كانت توجد طبقة المنبوذين وقد نزل بهم قانون مانو إلي مستوي أقل من مستوي الحيوانات فحرم علي الأفراد الاقتراب منهم أو إقامة علاقات معهم.
3-من حيث الجزاء :
أخذ قانون مانو الهندي بمبدأ المحنة في الإثبات وكان ينص علي جرائم كثيرة عقوبتها الإعدام مثل السرقة والزنا واتلاف أملاك الملك الخاصة كما نص علي كثير من العقوبات البدنية القاسية مثل بتر الأيدي والأقدام والإنوف والآذان وفقء العين .. الخ.
وجدير بالذكر أن قانون مانو لم يكن يعترف بمبدأ المساواة في العقوبة وإنما كانت العقوبة تختلف باختلاف الطبقة التي ينتمي إليها كل من المتهم والمجني عليه وبعد ذلك أثرا من آثار التفرقة الطبقية التي تحدثنا عنها آنفا.
الفرع الثالث
قانون بوكخوريس
الخصائص التي تميزه :
1-الفصل بين القانون والدين :
يمتاز قانون بوكخوريس بأنه قانون مدني بعيد عن الطابع الديني فقد أخرج قواعد القانون من دائرتها الدينية القديمة وآية ذلك أنه أباح الملكية العقارية الخاصة وأعطي لمستغلي الأراضي الزراعية حق التصرف فيها نتيجة الاعتراف لهم بحق الملكية التام وأخذ بمبدأ التعاقد بالكتابة كما أوجب تسجيل العقود لدي كاتب التسجيل وبذا قضي علي نظام الشهادة واليمين الدينية وأخذ بنظام الفوائد غير أنه حدد سعرها ونص علي عدم وجوب اشتراط فائدة سنوية أزيد من ثلث رأس المال وحرم المطالبة بأزيد من ضعف الدين مهما طالت المدة كما حرم الفوائد المركبة وفي مجال الأحوال الشخصية ألغي عقد الزواج الديني علي يد الكاهن وأصبح الزواج مدنيا.
2- ويبدو من أحكام هذا القانون أنه قد تأثر إلي حد ما بقوانين بابل ولاسيما قانون حمورابي فأخذ عنها بعض المبادئ وعلي الأخص فيما يتعلق بالالتزامات والعقود وذلك بعد تحويرها بما يتفق وعادات المصريين.
المطلب الثاني
المدونات الغربية
الفرع الأول
المدونات الإغريقية
1-قانون دراكون :
كان دراكون حاكما لمدينة أثينا بعد زوال العهد الملكي وقد وضع مجموعة القوانين التي تحمل اسمه بناء علي طلب العامة حوالي عام 621ق . م وذلك بعد أن فشلت لجنة التسعة في تحرير التشريعات ونشرها فقد كان في أثينا متخصصون في تفسير الأعراف من ذوي الخبرة فأختار الأثينيون من بينهم ستة أضيفوا إلي ثلاثة كانوا يعملون كقضاة وكلفوا بتسجيل القرارات التي لها قوة القوانين ولكن هذه اللجنة لم تستطع القيام بما كلفت به بسبب معارضة طبقة النبلاء ولما كان دراكون ينتمي إلي طبقة الإشراف فقد جاءت قوانينه محققة لكثيرة من مصالح هذه الطبقة ومع ذلك فقد عارضها الإشراف معارضة شديدة.
الخصائص التي تميزه :
وأهم ما يمتاز به قانون دراكون ما يأتي :
1-  قام دراكون بتنظيم القوانين التي جمعتها لجنة التسعة وتنقيحها ونشرها فأوجد بذلك نظاما قانونيا عاما يخضع له الجميع وقد عمل علي جعل السلطات العامة فوق سلطات العشيرة فألغي حق الانتقام الفردي وحاول تنظيم القضاء ليضع حدا للسلطة القضائية التي كان يتمتع بها رب الأسرة وأنشأ مجموعة للقانون الجنائي وحطم التضامن بين أفراد الجماعة بأن حدد درجات القرابة التي تخول حق المشاركة في دعاوي الانتقام للمجني عليه وجعل اعتراض عضو واحد من أعضاء الأسرة كافيا لوقف بعض القرارات ونص علي أنه إذا لم يقبل أحد الأطراف الصلح تولت السلطة العامة الأمر.
2-  كانت قوانين دراكون مفرطة في الشدة والقسوة لدرجة أن أتفه الجرائم كان يعاقب عليها بالموت ولذلك فقد اقترن اسم دراكون في كثير من اللغات الأوربية الحديثة بالقسوة وأصبح كل إجراء تعسفي يوصف بأنه إجراء دراكوني نسبة إلي دراكون وقانونه.
3-  اعترف قانون دراكون بالفوارق بين الطبقات وقسم المجتمع الأثيني إلي طبقات ثلاث طبقة الإشراف وبيدها الثروة والسلطة ومنها يختار الحكام الطبقة الوسطي وتضم أرباب المهن والتجار والصناع الطبقة الدنيا وتضم صغار الملاك الزراعيين والعمال الأحرار وبجانب هذه الطبقات الثلاث كانت توجد طائفة الرقيق وبالرغم من أن دراكون قد وسع بعض الشئ من دائرة الأشخاص الذين يحق لهم تولي مناصب الحكام عندما اعترف بهذا الحق للأغنياء المحدثين بعد أن كان مقصورا علي النبلاء فحسب فإن بقية الطبقات ظلت محرومة من التمتع بالحقوق السياسية.
2-قانون صولون :
لم تحسم قوانين دراكون الأزمة الاجتماعية بين الأشراف والعامة فهي لم تغير شيئا في النظام الاقتصادي ولا في الوضع الاجتماعي مما دفع العامة إلي المطالبة بتعديله أو إلغائه وقد استجاب صولون لهذا الطلب وأصدر مجموعة القوانين التي حملت اسمه عام 594 ق.م
وكان صولون من أبناء الأسر الغنية ولكنه اشتغل بالتجارة ثم عمل بالسياسة واختبر حاكما لأثينا عام 593 ق.م ومن آرائه التي اعتبرها دستورا له التضامن بين المواطن والمدينة وأن تسود العدالة بتشريعات توفق بين حقوق الجميع والاعتدال الذي يمنع الإفراط في الغني أو السلطة.
وقد منح صولون سلطان استثنائية ولكنه رفض منذ اللحظة الأولي أن يحتكر السلطة واختار أن يكون حكما بين طبقة الأغنياء والشعب كما بدأ إصلاحاته بالعفو العام عن المنفيين السياسيين ثم أصدر مجموعة من التشريعات لإصلاح الأمور السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
ومن أهم إصلاحاته السياسية إلغاء التفرقة بين طبقات الشعب وإصلاح دستور المدينة وتوحيد القانون بالنسبة للجميع مما أتاح الفرصة أمام طبقة العامة للاشتراك في مناصب الحكم في أثينا وفتح أمامهم الطريق للاشتراك في السلطة التشريعية عن طريق مجلس الشعب وتولي مناصب القضاء.
وفي المجالين الاجتماعي والاقتصادي نجد أن صولون قد أدخل مجموعة من التعديلات الهامة منها أنه ألغي الديون القديمة وما ترتب عليها من استرقاق للمدينين المعسرين وحرم التنفيذ علي شخص المدين بسبب عدم الوفاء بالدين كما حرم قتل الأبناء وبيعهم واعترف للابن بحق التحرر من السلطة الأبوية متي بلغ سنا معينة وبذلك أصبح للابن حق التملك في حياة أبيه كما ألغي القاعدة القديمة التي كانت تقضي بحصر الإرث في الابن الأكبر وأحل محلها قاعدة أخري تقوم علي أساس توزيع التركة بين الأبناء الذكور فإذا كان للمتوفي أبناء آلت التركة لأقرب العصبات شريطة أن يتزوج من بنت المتوفي كما أجاز للشخص أن يوصي بماله إذا لم يكن له أولاد ومن الملاحظ أن هذه القواعد وغيرها كانت تهدف في المقام الأول إلي هدم السلطة الأبوية أو علي الأقل للتخفيف من صرامتها.
ولعل أهم ما يميز قوانين صولون هو أنها أخرجت فكرة القانون نهائيا من دائرتها الدينية القديمة إلي دائرة سياسية بحتة ترجع في صوغها إلي وحي التطور الاجتماعي والعقل الإنساني.
الفرع الثاني
قانون الألواح الإثني عشر
كيفية وضعه :
وقد استمر العامة عشر سنوات لا يألون جهدا ولا يدخرون وسيلة في الإصرار علي مطالبهم التي لاقت في بادئ الأمر مقاومة عنيدة من الأشراف الغيورين علي امتيازاتهم وفي نهاية الأمر اتفق الفريقان حوالي سنة 452 ق.م علي تشكيل لجنة من عشرة رجال لوضع مجموعة القوانين وإرسال بعثة من ثلاثة أعضاء إلي اثينا لدراسة تشريعات صولون قبل أن تبدأ لجنة العشرة عملها وبعد عودة اللجنة الثلاثية إلي روما سنة 451 ق.م تم اختيار عشرة أعضاء من الأشراف الذين سبق لهم تولي الوظائف العليا في حكم المدينة وخولوا جميع السلطات السياسية والمدنية والحربية بالإضافة إلي مهمة تحرير أو وضع التشريع المطلوب أما سلطات الحكام الأشراف ونقباء العامة فقد عطلت لمدة سنة حتي تنتهي لجنة العشرة من عملها علي أن مدة السنة قد انتهت دون أن تتمكن اللجنة من إتمام عملها فقد وضعت عشرة ألواح فقط وعرضتها علي المجالس الشعبية فوافقت عليها وأمرت بإصدارها ونشرها ولذلك قرر الرومان حوالي عام 450 ق.م اختيار لجنة من عشرة أعضاء لإتمام عمل اللجنة الأولي وقد ضمت لجنة العشرة هذه المرة ثلاثة من العامة وتمكنت من وضع لوحين آخرين عرضا علي المجالس الشعبية لإقرارهما والموافقة علي نشرهما.
وكانت الألواح الاثني عشر من الخشب علي رأي البعض أو من العاج علي رأي آخر أو من البرونز علي رأي أكثر مؤرخي الرومان وعلي أية حال فقد أعلنت هذه الألواح في ساحة القضاء في روما.
وفي الواقع فإن نصوص قانون الألواح الاثني عشر لم تصلنا بطريقة مباشرة كما وصلتنا مجموعة حمورابي مثلا ذلك أن الألواح التي نقشت عليها نصوص القانون ضاعت أو تحكمت عندما غزت قبائل الغال مدينة روما ودمرتها سنة 390 ق.م أما النصوص الموجودة لدينا الآن فهي عبارة عن فقرات وردت في كتب الفقهاء الرومان من أمثال جايوس وفي كتب الأدباء من أمثال سيشرون وعلماء النحو واللغة الذين كانوا يستشهدون للغة القديمة بنصوص من قانون الألواح وبعض هذه الفقرات منقولة حرفيا من النص الأصلي وبعضها الآخر مكتوب بلغة كاتبها ولكنها تحوي نفس المعني الذي كانت تتضمنه النصوص الأصلية ويقرر الفقهاء أن ما جمع علي هذا النحو يكاد يكون هو التشريع الأصلي كاملا بدليل أن اكتشاف نظم جليوس في عام 1816 لم يضف شيئا يذكر إلي ما أمكن تجميعه من قبل.
الخصائص التي تميزه :
يعتبر قانون الألواح في نظر المؤرخين المرحلة الأولي في تاريخ القانون الروماني والأساس الذي قام عليه تطور هذا القانون في العصور اللاحقة.
ومن أهم ملامح القانون ما يلي :
1-  أن عباراته قد صيغت علي عكس قانون حمورابي في أسلوب شعري موجز حيث تنتهي فقراته بصورة متشابهة.
2-  أنه لم يخل تماما من الأحكام الدينية فقد اشتمل علي بعض القواعد الخاصة بآداب الديانة ومراسم الجنازات كما احتوي علي التقويم الديني وهو من الأمور الهامة في إجراءات التقاضي.
3-  بالرغم من أن بعض قواعده مستعارة من القوانين الأجنبية واليونانية إلا أنه يختلف عن هذه الأخيرة في أن أحكامه كانت تتسم بالشكليات والرسميات لدرجة أن أية هفوة شكلية كانت تسقط الحق ولا غرابة في ذلك فقد وضع قانون الألواح لكي يحكم مجتمعا زراعيا كان التعامل فيه نادرا ويستوجب العناية به والاحتفال بأمره أما القوانين الإغريقية فقد كانت خالية من الشكلية لأنها وضعت لبيئة تجارية تمتاز بكثرة المعاملات وسرعة التبادل وهذا بطبيعة الحال لا يتفق وكثرة الإجراءات الشكلية أو الصيغ الرسمية.
4-  كان قانون الألواح قاسيا في أحكامه فطريا في مبادئه فقد أجاز مبدأ القصاص والتنفيذ علي جسم المدين : فإذا عجز المدين عن الوفاء بالدين خلال شهر من ثبوته كان للدائن أن يطلب وضعه تحت تصرفه ثم يسلكه في سلسلة لا يزيد وزنها عن خمسة عشر رطلا ويجتره إلي منزله حيث يبقي ستين يوما يأكل من ماله إن شاء وإلا وجب علي الدائن أن يقدم إليه مالا يقل عن رطل من الشعير في اليوم ويعرض في خلال الستين يوما في ثلاث أسواق فإن لم يقم أحد بالوفاء عنه كان للدائن تمزيق جسمه إربا علي أن يتوزعه الدائنون إذا تعددوا كما أن للدائن بيعه فيما وراء نهر التير أي خارج حدود روما حيث يصير عبدا.
5- لم يقض قانون الألواح علي التفرقة الطبقية التي كانت قائمة في المجتمع الروماني قبل صدوره فلم يسمح بالزواج بين طبقتي الإشراف والعامة ولم يمنع استئثار الأشراف بمناصب الحكم وربما يرجع ذلك إلي أن الغرض الرئيسي من وضعه لم يكن إحداث إصلاح أو تغيير في النظم القانونية السائدة بل تجميع القواعد العرفية وجعلها معلومة للجميع بغية نفي الشك في وجودها أو منع الخلاف علي تفسيرها إضرارا بطبقة العامة.
الباب الثاني
تطور القانون
تمهيد:
وقفنا فيما سبق علي حقيقة تاريخية علمية هامة وهي أن فكرة القانون قد تبلورت تماما وأخذت قواعده كيانا محددا واكتملت صورتها الخارجية بتدوينه في مجموعات رسمية فقد استقل القانون عن غيره من قواعد السلوك وأصبح يمثل مجموعة من القواعد العامة والمجردة التي تنظم سلوك الأفراد في المجتمع والتي تكفل السلطة العامة احترامها بجزاء يوقع علي المخالف عند الاقتضاء هذه القواعد قد تنشا عن تشريع تصدره السلطة المختصة في الدولة أو عن عرف درج عليه الناس في حياتهم ومعاملاتهم أو عن فقه تكون من استنباط القواعد القانونية التي يمكن تطبيقها علي الحالات الفردية أو عن قضاء استقرت عليه أحكام المحاكم في بلد من البلاد وأخيرا قد تنشا القاعدة القانونية عن تعاليم أو تقاليد دينية توارثها الخلف عن السلف وأصبحت راسخة في أذهان الناس وبذلك يمكننا القول بان اثر الدين كمصدر للقانون قد انحصر في أضيق نطاق وأصبحت الديانة لا تمثل المصدر الأوحد للقانون كما كان الحال في عهد التقاليد الدينية .
علي ان التقنين وان كان يهدف في المقام الأول إلي جمع القواعد القانونية أيا كان مصدرها في مجموعة واحدة فإنه لا يعني إطلاقا وضع القانون بمنأي عن التعديل أو التغيير فالقانون في حقيقته وجوهره مظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية ومن ثم شكل ومضمون الروابط الاجتماعية يتغير ويتطور من حين لآخر تحت تأثير عوامل وظروف متعددة فإن القانون كذلك يتغير ويتطور شكلا ومضمونا ومن هنا يقرر العلماء والباحثون أن " القواعد المدونة لم تبق علي حالتها الأولي التي وضعت فيها بل أصابت علي مر الأيام كثيرا من التحوير والتعديل والإصلاح فقد كانت في أول عهدها قليلة العدد ضيقة النطاق مقيدة بالإجراءات الشديدة ولم تزد عن أنها صورة مكتوبة من العرف السائد وقت ذلك وتبعا لسنة التقدم الاجتماعي وازدياد العلاقات التجارية والاقتصادية ونشوة روابط جديدة ومعاملات متنوعة شعر الناس بالحاجة إلي تعديل هذه النصوص وتوسيع نطاقها وتبسيط إجراءاتها حتي تشمل الحالات الجديدة الماثلة وتلائم التطور الجديد ".
الجماعات المتطورة والجماعات الجامدة "-
القاعدة إذا هي أن تدوين القانون لا يعني الحكم عليه بالثبات والجمود لأن نفس الظروف والعوامل الاجتماعية التي دعت إلي وجوده وانتقاله من مرحلة لأخرى لازالت قائمة وإن تغيرت صورتها أو تغير جوهرها وبالتالي لابد وأن يتطور القانون لكي يساير تطور الظروف والأحوال الاجتماعية .
ولكن هل يعني ذلك أن تطور القانون يعد حقيقة مسلمة بالنسبة لجميع الشرائع ؟ في الواقع لا يمكننا الإجابة علي هذا السؤال بالإيجاب لأن الأبحاث التاريخية قد أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن التطور يعد حالة استثنائية وأن جميع الشرائع القديمة لم تتطور مع تقدم الزمن ولذلك يقسم العلماء المجتمعات البشرية من وجهة التطور القانوني إلي قسمين :
1- المجتمعات المتقدمة أو المتطورة :
وهي المجتمعات التي ساير فيها القانون تطور الظروف والأحوال الاجتماعية فأي تغيير يطرأ علي المجتمع يترك أثره علي القانون الذي يحكمه ولذلك فإن القانون في هذه المجتمعات يعد مقياسا صحيحا لمقدار تقدمها ورقيها.
2- المجتمعات الجامدة أو الراكدة :
وهي المجتمعات التي لم تتطور نظمها القانونية بعد تدوينها في مجموعات رسمية بالرغم مما كسبت بعد ذلك من التقدم أو الحضارة المادية فقد جمد القانون لدي هذه الأمم وثبت علي صورته المتخلفة وانتقل من جيل إلي جيل دون أن يتأثر بما أصاب المجتمع من تطورات فشريعة الهند البرهمية مثلا وقفت عند الحد الذي بلغته قديما ولم تتجاوز دورا مرت به جميع الهيئات الإنسانية وهو الدور الذي لم يتميز فيه القانون عن الدين ولم تظهر فيه القواعد القانونية منفصلة عن الأوامر والتعاليم الدينية.
وتمثل الأمم الراكدة أو الجامدة الغالبية العظمي من الجماعات البشرية أما الأمم المتطورة فإنها تمثل أقلية ضئيلة فيها فالمدينة التي نراها تحيط بنا من كل جانب في العالم الحديث هي في الواقع صناعية أقلية من الناس أقاموا بناءها في أناة واستمدوا وجودها من حياة الترف أما سواد الناس وغمارهم فلا يكاد يتغير منهم شيء كلما مرت بهم ألف عام.
ويعتبر الشعب الروماني والشعوب الإسلامية والشعوب الانجلوسكسونية خير مثل للأمم المتطورة : فشرائع هذه الأمم الثلاث نشأت كل منها في أول عهدها مقصورة علي امة واحدة أو جنس واحد ثم اتسع نطاقها وامتد نفوذها حتي أصبحت كل منها شريعة عامة تسري أحكامها علي شعوب ودول متعددة: فسادت الشريعة اللاتينية في العالم الأوروبي وسادت الشريعة الإسلامية في العالم الإسلامي وسادت الشريعة الانجلوسكسونية في العالم الانجلوسكسوني .
ولكن ما هو سر تقدم بعض القوانين دون البعض الآخر ؟ لقد اختلف العلماء حول تفسير هذه الظاهرة الاجتماعية فذهب البعض إلي أن السبب في عدم تطور شرائع الأمم الراكدة إنما يرجع إلي أنها لم تبلغ مرحلة التدوين إلا بعد مضي قرون طويلة مما ترك مجالا واسعا لتأثير الخرافات والدين في القواعد القانونية بحيث أصبحت القوانين عند تدوينها تغلب فيها القواعد الدينية وتختلط بمبادئها بعض الخرافات التي حالت بعد ذلك دون نموها وتقدمها أما الأمم المتطورة فقد انتقلت بسرعة إلي مرحلة التقنين فسلمت قواعدها القانونية بهذا التقنين المبكر من هذه الخرافات وجاءت أكثر تجردا من الدين والخرافة وقد عبر عن ذلك الأستاذ " سمنرمين " بقوله :" يتعرض المجتمع الفطري الذي يتبع طائفة من التقاليد لأخطار خاصة قد تقضي قضاء تاما علي تقدمه في المدينة فالتقاليد يخضع لها بطبيعة الأمور جماهير لا تفهم حكمتها علي حقيقتها فتجد سر دوامها في أسباب خرافية وعندئذ يتولد عن التقاليد المعقولة تقاليد غير معقولة ويصبح القياس وهو خير أداة فقهية يستعان بها في عصر نضوج القانون أخطر الوسائل في عهد طفولته فالخطر المقصور في أصله علي أفعال فردية معينة لعلة معقولة يمتد إلي جميع الأفعال التي تتصل بها بشيء من التشابه لأن خوف الإنسان من غضب الآلهة من أجل فعل ما يجعله يشعر بفزع طبيعي نحو كل فعل آخر من نوعه ولو كان الشبه بينهما بعيدا وعلي هذا يتسع تحريم طعام خاص لحكمة صحية فيشمل كل طعام يماثله ولو كان التماثل علي قياس خالي وتتولد عن حكم تقرر لضمان النظافة العامة سلاسل من إجراءات الطهارة وقيودها الشكلية ويتمخص تقسيم الناس إلي طبقات قضت بها الضرورة مرة في التاريخ الاجتماعي لحفظ كيان الأمة عن نظام الطوائف وهو شر النظم الإنسانية وأشأمها علي المجتمع وأن مصير القانون الهند مقياس لقيمة الألواح الرومانية ورغما عما يدلنا عليه تاريخ الأجناس من تناسل الهنود والرومان من جنس واحد ومن التماثل بين تقاليدهم الأولي فإن الفقه الهندي – مع ما فيه من بعد نظر وسلامة حكم – قد اشتمل علي مركب ضخم من السخافات القاسية وقد سلم الرومان منها بفضل مدونتهم التي وضعت قبل أن تفسد تقاليدهم ولا نستطيع أن نزعم لولا نشر الألواح الإثنيي عشر لقضي علي الرومان بمدنية ضعيفة فاسدة كمدنية الهنود ولكن من المؤكد أنهم بتدوينهم قانونهم قد أمنوا من مثل هذا المصير النفسي .
ولكن هذا الرأي وإن كان ينطوي علي جزء من الحقيقة إلا أنه في الواقع ليس صحيحا علي إطلاقه ذلك أن بعض الأمم الحديثة ذات التاريخ القديم مثل الجماعات الانجلوسكسونية مازال الجزء الأكبر من قوانينها تقاليدا غير مدونة في مجاميع رسمية ولم يؤثر ذلك في تقدمها وتطورها في العصور القديمة والحديثة علي السواء هذه الحقيقة وإن دلت علي شيء فإنما تدل علي أن التدوين المبكر لم يكن هو العامل الوحيد وراء تقدم بعض الشرائع وإنما وجدت بجانبه عوامل أخري متعددة مثل طبيعة الشعوب المتطورة ومدي تغلب مليها الطبيعي إلي الابتكار والتحديد علي روح المحافظة علي العادات والتقاليد ومقدار التطور الذي يطرأ علي ظروفها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وقد ذهب فريق آخر من العلماء إلي أن علة تقدم بعض الأمم دون البعض الآخر من وجهة التطور القانوني إنما تكمن في الأصل الديني للشرائع القديمة: فالأمم القديمة كلها قد مرت بمرحلة كانت القوانين فيها عبارة عن مجموعة من التقاليد الدينية التي يرجع مصدرها إلي وحي الآلهة وتستتبع مخالفتها توقيع جزاء من طبيعة دينية غير أن غالبية الأمم قد أضفت علي تقاليدها قدسية خاصة مما أكسبها قوة في الأذهان وثباتا في النفوس حالا دون نموها وتقدمها مجاراة لحاجات المجتمع المتغيرة بينما تمكن بعض الأمم التي كانت فيها روح التجديد أقوي أثرا من قدسية النصوص والتقاليد من تعديل قوانينها بما يتلائم وحاجة المجتمع المتجددة فتطورت بذلك شرائعها وتعدلت أحكامها واتسعت نظمها ومبادئها.
ولا شك أن هذا الرأي ينطوي كسابقه علي قدر من الحقيقة إلا أنه مع ذلك لا يفسر لنا تقدم بعض الشرائع دون البعض الآخر تفسيرا كاملا: فتطور القانون يخضع في الواقع كما تدل علي ذلك الأبحاث التاريخية لعوامل متعددة وليس لعامل واحد وهذه العوامل قد تكون اقتصادية وسياسية ودينية وفكرية وقد تكون نابعة من طبيعة الشعب ومدي استعداده للابتكار والتجديد أو للمحاكاة والتقليد وقد تكون متعلقة بالبيئة وطبيعة المكان الجغرافية ... إلخ.
وستنصب دراستنا في هذا الباب علي الشرائع المتطورة فقط بغية استخلاص العوامل أو الأسباب العامة التي ساعدت هذه الشرائع علي السير في طريق التقدم والتطور والوسائل التي استعين بها لتحقيق هذا التطور.
وعلي ذلك فإننا سنقسم هذا الباب إلي فصلين علي النحو التالي:
الفصل الأول : أسباب تطور القانون.
الفصل الثاني : وسائل تطور القانون.
الفصل الأول
أسباب تطور القانون
مما لا شك فيه أن أسباب تطور القانون تختلف باختلاف الزمان والمكان ومن ثم فإنه من الصعبة أن نجري حصرا شاملا للأسباب التي دفعت قوانين الأمم المختلفة إلي عالم التطور والتقدم خاصة إذا كانت الدراسة تتسم بطابع العمومية والتجريد ولا تنصب علي قانون أمة معينة بالذات.
ويقسم بعض الفقهاء أسباب تطور القانون إلي أسباب خاصة وأسباب عامة:
ويقصد بالأسباب الخاصة تلك الأسباب التي تؤثر علي بعض القوانين دون البعض الآخر وهي متعددة ومتنوعة وتختلف من مجتمع إلي آخر تبعا لاختلاف ظروفه المعيشية والبيئية والجغرافية والتاريخية والنفسية: فكثير من البلاد تغيرت عاداتها وقوانينها لمجرد أن شعوبها قد اختلطت بشعوب أخري والشعوب المغلوبة علي أمرها تميل دائما إلي تقليد الشعوب الغالبة والشعوب المختلفة تحاول دائما أن تحاكي الشعوب المتقدمة في عاداتها وتقاليدها وقد يأتي التطور كأمر مفروض علي المجتمع وهذا هو ما يحدث في حالات الغزو الأجنبي حيث يفرض المنتصر دائما قانونه علي الشعوب المهزومة أو المحتلة.
أما الأسباب العامة فيقصد بها الأسباب التي تساهم بنصيب يختلف مداه في تطور القانون لدي سائر الأمم مثل العوامل الدينية والاقتصادية والفكرية فهذه العوامل قد تركت بصماتها واضحة علي معظم الشرائع وإن كان من الملاحظ أن درجة تأثيرها لم يكن واحدة وأنها كانت تتفاوت من شعب لآخر ومن زمن لآخر حسبما تمليه طبيعة المكان وروح العصر: فقد يكون للدين أثر كبير في تطور قانون بعض الشعوب – كما حدث في البلاد الإسلامية مثلا – في حين يكون دوره ضئيلا لدي البعض الآخر وقد يكون للعامل الاقتصادي دور ملحوظ في تطور القانون في زمن معين في حين لا تكون له نفس الأهمية في زمن آخر: فدور العامل الاقتصادي في القوانين الحديثة مثلا لا يقاس بدوره في الشرائع القديمة.
ونتناول فيما يلي بيان الدور الذي ساهم به كل من العاملين الديني والاقتصادي في تطور القانون وذلك باعتبارهما من عوامل التطور العامة أما الأسباب الخاصة بكل أمة فلن نتعرض لها لأن دراستنا تهدف كما سبق القول إلي استخلاص المبادئ العامة التي يخضع لها القانون في تطوره ولا تهدف إلي دراسة تاريخ قانون كل أمة علي حدة.
المبحث الأول
إثر الدين في تطور القانون
رأينا فيما سبق مدي السلطان العظيم الذي كان يتمتع به الدين في نفوس البشر فكل شيء لا يعرف مصدره كان ينسب إلي تلك القوي الخفية أو غير المنظورة أي الآلهة ومن هنا كانت المحاولات المستمرة لاستطلاع رأي الآلهة ومشيئتهم بغية الخضوع لها فيما يتعلق بصلات الإنسان وأنشطته المختلفة وفي هذه الظروف ظهرت فكرة القانون في صورة " حكم إلهي " يوحي به إلي القاضي أو رجل الدين فينطق به في النزاع المعروض أمامه ثم ما لبثت هذه الأحكام أن اتخذت صورة أقوال مأثورة أو صيغ محددة يتناقلها الناس جيلا بعد جيل نتيجة تواتر الأحكام المتماثلة إثر القضايا المتشابهة ثم استقرت هذه الأقوال وتلك الصيغ أخيرا في صورة " تقاليد دينية " تتمتع بذاتية خاصة مجردة عن كافة الظروف والملابسات التي دعت إلي وجودها.
ولم يكن دور الديانة مقصورا علي المساهمة في نشأة القواعد القانونية فحسب وإنما كان لها دور واضح في تطور القانون سواء لدي شعوب الشرق كالهنود والفراعنة واليهود والمسلمين أو لدي شعوب الغرب كالرومان والجرمان والانجلوسكسون.
ونستعرض فيما يلي دور المسيحية في تطور الروماني كمثال لدور الدين في تطور القانون عند شعوب الغرب ثم دور الإسلام في تطور القانون العربي القديم كمثال لدور الدين في تطور القانون عند شعوب الشرق.
المطلب الأول
دور المسيحية في تطور القانون الروماني
ظهرت المسيحية في أورشليم ( القدس ) في بيئة يهودية ومع اضطهاد اليهود لأنصارها لجأ كثير من المؤمنين بها إلي الإمبراطورية الرومانية ولكنهم تعرضوا هناك للاضطهاد والتعذيب ومصادرة الأموال قرابة ثلاثة قرون وفي عام 313م اعتنق الإمبراطور الروماني قسطنطين الدين الجديد وأباح للناس اعتناقه مع الإبقاء علي الديانات الأخري وأصدر بذلك منشوره الشهير المعروف باسم " منشور التسامح الديني " وفي نهاية القرن الرابع الميلادي أعلن الإمبراطور " تيودور"  المسيحية دينا رسميا للدولة وحرم الديانات الوثنية التي كانت سائدة في الإمبراطورية الرومانية وبهذا انتشرت المسيحية في الإمبراطورية الرومانية وبدأت الكنيسة تلعب دورها في الحياة السياسية والاجتماعية للرومان.
ومن هذا العرض السريع والموجز يمكن القول بأن المركز القانوني للمسيحيين داخل الإمبراطورية الرومانية قد مر بمرحلتين رئيسيتين:
المرحلة الأولي: وهي المرحلة التي عاش فيها المسيحيون في ظل الاضطهاد والتعذيب وتبدأ منذ أن ظهرت المسيحية وأخذ أنصارها يبشرون بها في روما وتنتهي عام 313م عندما اعتنق الأباطرة الرومان الدين المسيحي.
المرحلة الثانية: وهي المرحلة التي أصبحت فيها المسيحية الديانة الرسمية للإمبراطورية وظهر فيها سلطان الكنيسة والقانون الكنسي.
ولنلقي نظرة خاطفة علي كل من هاتين المرحلتين قبل أن نناقش أثر المسيحية في تطور القانون الروماني.
أولا – المركز القانوني للمسيحيين حتي عام 313م : لم تكن الديانة المسيحية خلال هذه الفترة معترفا بها من الرومان ويرجع ذلك من ناحية إلي القيود التي فرضها القانون الروماني لممارسة الديانات الأجنبية بصفة رسمية داخل حدود الإمبراطورية الرومانية ومن ناحية أخري إلي القيود التي فرضت علي حق الأفراد في لتجمع:
فقد كان القانون الروماني يشترط لممارسة ديانة أجنبية بصفة رسمية في الإمبراطورية الرومانية أن يكون مجلس الشيوخ (السناتو) قد أصدر تصريحا خاصا بذلك ومثل هذا التصريح لم يصدره مجلس الشيوخ بالنسبة للديانة المسيحية.
ومن ناحية أخري فإن الحق في المجتمع لم يكن مسموحا به – طبقا لقانون جوليا الذي أصدره سيزار وأقره فيما بعد الإمبراطور أغسطس – ما لم يكن مجلس الشيوخ أو الإمبراطور قد صرح بذلك ومثل هذا التصريح لم يحصل عليه المسيحيون.
وقد ترتب علي ذلك أن اعتبرت الديانة المسيحية ديانة محظورة أو محرمة فهي لا تتمتع بصفة شرعية لأن مجلس الشيوخ لم يصرح للمسيحيين بممارسة الدين المسيحي داخل نطاق الإمبراطورية الرومانية وليس لأنصارها الحق في التجمع بصورة مشروعة لعدم الإذن لهم بذلك سواء من مجلس الشيوخ أو من الإمبراطور وبعبارة أخري فإنه لم يكن لجماعات المسيحيين أي وجود شرعي داخل الإمبراطورية الرومانية مما جعل أنصارها عرضة دائمة للمحاكمة والاضطهاد ومصادرة الأموال.
علي أن عداء الرومان للمسيحية لم يكن نابعا من وضعها غير القانوني أو غير المشروع فحسب وإنما أيضا لأن الديانة الجديدة كانت تتعارض في مضمونها وجوهرها مع المعتقدات الدينية الرومانية ذات الطابع الوثني ويشهد تاريخ المسيحية في روما بقيام كثير من الحركات الشعبية ضد المسيحيين.
وكانت هذه الحركات تحظي في بعض الأحيان بتأييد الإمبراطور الروماني نفسه بل إن بعض الأباطرة هو الذي كان يثير حفيظة الرومان ضد المسيحيين وحسبنا في التدليل لذلك ما حدث في عهد "نيرون" عام 64 ميلادية.
ويتبين من مرافعات المدافعين عن العقيدة النصرانية في القرن الثاني الميلادي أن الشكاوي التي كانت ضد المسيحيين من عامة الشعب كانت تنسب إليهم ارتكاب بعض جرائم القانون العام والتي يعاقب عليها بالإعدام مثل جريمة القتل الشعائري وجريمة قتل الطفل المولود حديثا والفجور أو الفسق الليلي وارتكاب المحارم أما طائفة المثقفين من الرومان فقد كانت تبني ادعاءاتها علي أساس مخالفة المسيحيين للقواعد التقليدية للمجتمع الروماني وبصفة خاصة رفضهم القسم للإمبراطور ومناهضتهم لروما التي يمثلها.
ولكن هل كان اعتناق المسيحية يعد في حد ذاته جريمة؟ هذا ما يمكن في الواقع أن نستنتجه من تصريحات الإمبراطور "تراجان" الخاصة بالمسيحيين والتي كانت تقضي بمعاقبة كل من يجهر باعتناق المسيحية رفض الارتداد عنها.
الأساس القانوني لمحاكمة المسيحيين: وحتي عهد الإمبراطور "دسيوس" (249 م) لم يكن هناك أي نص تشريعي يحرم صراحة إقامة الشعائر المسيحية أو يجعل اعتناق الدين الجديد جريمة يعاقب عليها ويقرر الرأي الغالب بين الفقهاء أن محاكمة المسيحيين خلال تلك الفترة كانت تقوم علي أساس الولاية العامة للإمبراطور باعتباره المسئول عن الأمن العام في البلاد.
وفي منتصف القرن الثالث الميلادي تغير الوضع تماما حيث بدأ الأباطرة لأول مرة يصدرون منشورات تتضمن إجراءات عامة لمحاكمة المسيحيين واضطهادهم ونذكر من هذه المنشورات علي سبيل المثال: منشور الإمبراطور "دسيوس" الصادر سنة 249 م والذي أوقف العمل به في العام التالي منشور الإمبراطور "فاليريان" الصادر عام 257 م الذي أجبر الكهنة بمقتضاه علي تقديم القرابين للآلهة الرومانية وإلا تعرضوا لعقوبة الإعدام وقد امتد العمل بهذا المنشور في عام 258 ليشمل الكهنة والمسيحيين من أعضاء مجلس الشيوخ "السناتو" والفرسان وبعد وفاة "فاليريان" توقف الاضطهاد ضد المسيحيين ولكنه سرعان ما عاد ثانية عندما أصدر الإمبراطور "ديوقليسيان" (303 – 304م) أربع منشورات متوالية تنظم اضطهاد المسيحيين ومحاكمتهم.
ثانيا – المركز القانوني للمسيحيين بعد عام 313 ميلادية: بالرغم من كل المحاولات المتكررة من جانب الأباطرة الرومان للقضاء علي المسيحية وذلك بتعذيب أنصارها ومحاكمتهم ومصادرة أموالهم فإن الديانة الجديدة قد صمدت في ثبات وطمأنينة وثقة عقائدية بل أخذت تنتشر يوما بعد يوم في صفوف الرومان مما دفع هؤلاء الأباطرة إلي إعلان فشلهم في هذا الصدد والاعتراف بالمسيحية ديانة رسمية وقد جاء ذلك بصورة تدريجية علي النحو التالي:
ففي عام 311 ميلادية أصدر الإمبراطور "جالير" منشورا يعترف فيه بالديانة المسيحية في الشرق ويدعو إلي التسامح مع أتبعها شريطة ألا تعكر صفو النظام العام ولكن الإمبراطور "ماكسيميان" رفض تطبيق هذا المنشور علي الولايات الخاضعة لإدارته ومنها مصر وسوريا.
وفي شتاء عام 312 – 313 ميلادية قرر الإمبراطور "قسطنطين" الاعتراف بالدين المسيحي وأباح للناس اعتناقه وضمن لهم حرية العبادة كما اتخذ من الصليب علما في حروبه وذلك بعد أن انتصر علي في موقعة في 27 أكتوبر سنة 312 ميلادية وبسط سيادته علي الغرب.
وفي 28 فبراير سنة 380 ميلادية أصدر الإمبراطور" تيودور" (379-395) منشورا حرم بمقتضاه الديانات الوثنية التي كانت سائدة في الإمبراطورية الرومانية وأعلن المسيحية دينا رسميا للدولة والشعب معا.
وقد استتبع ذلك تحريم الأعياد والمناسبات الوثنية وهدم المعابد الدينية أو مصادرتها ووضع تقويم مسيحي لأيام البطالة وأيام التقاضي أخذ يحل تدريجيا محل التقويم القديم وبدأت التقاليد الاجتماعية والقانونية والمسيحية تفرض نفسها علي المجتمع الروماني فظهر القانون الكنسي وبدأ التفاعل بين السلطتين الدينية والزمنية نتيجة التعاون المشترك الذي ظهر في بادئ الأمر بين الكنيسة والدولة.
القانون الكنسي:
ويتكون هذا القانون من مجموعة القواعد القانونية التي وضعتها الكنيسة الكاثوليكية لكي تطبق علي طائفة المسيحيين التابعين لها.
فكلمة "كنسي" مشتقة من الكلمة الإغريقية التي كانت تستعمل في القرون الأولي للمسيحية للتعبير عن قرارات المجالس التابعة للكنيسة وقد استمرت الكنيسة قواعد هذا القانون من الكتاب المقدس (التوراة والإنجيل) والعرف وقواعد القانون الروماني بعد تعديلها وتهذيبها بما يتلاءم مع الأسس الخلقية والدينية التي قامت عليها المسيحية بالإضافة إلي بعض النصوص التشريعية التي كانت تصدرها المجالس الكنسية.
القضاء الكنسي:
عملت الكنيسة منذ البداية علي تنظيم نفسها فأوجدت نظاما رئاسيا متدرجا علي غرار التنظيم الإداري للدولة الرومانية ويقوم هذا النظام علي أساس تقسيم الدولة إلي مناطق يكون علي رأس كل منها تابع يرعي شئونها.
كما وجد المسيحيون في تعاليم السيد المسيح بعض المبادئ التي يمكن إتباعها في حالة وجود نزاع بينهم منها أنه في حالة وجود نزاع بين طرفين من المسحيين فإنه يجب محاولة الصلح بينهما فإن فشلت هذه المحاولات وجب عليهما تحكيم الجماعة المسيحية فإذا رفض الخصم الخضوع لقرار التحكيم وقعت عليه عقوبة الحرمان ( أي الطرد من دائرة الجماعة المسيحية ) وقد لعبت هذه التعاليم دورا هاما في حسم المنازعات  التي كانت تثور بين المسيحيين خاصة في القرون الأولي للمسيحية حيث كان يجب عليهم الخضوع للسلطة الدينية لرؤسائهم الدينيين ( الكهنة والأساقفة ) حتي يتجنبوا تدخل القضاة الرومان غير المسيحيين في شئونهم الخاصة.
وقد شجع الإمبراطور قسطنطين تطوير القضاء الكنسي الذي يتولاه الأساقفة فسمح للمتخاصمين أن يخضعوا بإرادتهم لقرار الأسقف بعد أن جعل لقرارات الأساقفة قوة الأحكام القضائية.
وفيما يتعلق بنظام الجرائم والعقوبات فقد اعترف الأباطرة الرومان للمحاكم الكنسية بالاختصاص في نظر جميع المخالفات الدينية أو الروحية ( مثل مراعاة النظام داخل الكنيسة والسر المقدس وبصفة عامة كل ما يتعلق بالعقيدة ) والتي تقع من المسيحيين.
أما بالنسبة لرجال الدين أنفسهم ( الكهنة والأساقفة ) فقد ظهر في القرن الخامس الميلادي ما يسمي " بامتياز الاكليروس " أو الامتياز القضائي ومضمونه أنه لا يجوز مقاضاة رجال الدين بخصوص أي أمر من الأمور مدنيا كان أم جنائيا إلا أمام المحاكم الكنسية وقد استمر العمل هذا الامتياز طيلة العصور الوسطي.
ونظرا لعدم الفصل بين الأمور المدنية والأمور الدينية فقد أضافت المحاكم الكنسية إلي اختصاصها بعض المسائل المدنية التي ترتبط بالمسائل العقائدية فأصبحت هي وحدها التي تختص بجميع المسائل المتعلقة بالزواج ومنذ القرن السابع الميلادي اعتبر الزواج من الأسرار المقدسة وأصبحت المحاكم المدنية لا تختص بالمنازعات المرتبطة به وقد نتج عن ذلك أن انتقل إلي المحاكم الكنسية الاختصاص بنظر كثير من الموضوعات التي ترتبط – من قريب أو بعيد – بنظام الزواج مثل منح البنوة الشرعية والطلاق وفسخ الخطبة والاغتصاب ... إلخ.
  وكان الناس يفضلون الالتجاء إلي المحاكم الكنسية في المسائل المدنية بسبب عدم تمكن القضاة المدنيين من أحكام القانون وفداحة الرسوم القضائية في المحاكم المدنية ومن هنا بدأت المنافسة بين القانون الروماني والكنسي.
وفي العصور الوسطي تدهور القضاء المدني نتيجة ضعف السلطة الملكية وسيطرة نظام الإقطاع عليها بينما كانت الكنيسة في أوج عظمتها فامتد القضاء الكنسي ليشمل المسيحيين وغير المسيحيين وأصبح القانون الكنسي واجب التطبيق علي الجمع حتي صدرت القوانين الغربية الحديثة وبها إثر من مباديء القانون الكنسي.
إثر المسيحية في تطوير القانون الروماني:
اختلف الفقهاء في مقدار الأثر الذي أحدثته المسيحية في القانون الروماني فذهب البعض إلي القول بأنه وإن كان من الثابت أن المسيحية قد أثرت في القانون الروماني فإن هذا التأثير أقل بكثير مما قد يتوهمه البعض فمجموعات " جستيان " قد احتفظت للقانون الروماني بخصائصه ومميزاته التي كانت له في العصر العلمي ويظهر فيه إثر الفلسفة اليونانية القديمة أكثر من أثر الديانة المسيحية ودليل ذلك أن قانون " جستيان " قد نص علي نظام الرق كما استمر الطلاق حقا للزوج دون الزوجة وإن حرمه أحد الأباطرة في غير حالات نص عليها كالزنا وسوء السلوك والاعتداء وهذان النظامان – الرق والطلاق – مخالفان تماما لتعاليم الديانة المسيحية.
ويخلص أنصار هذا الرأي إلي أن الكنيسة المسيحية هي التي قبلت البني القانونية الرومانية ولذلك لا نكاد نجد هناك فقهاء مسيحيين يمكن مقارنتهم بفقهاء العصر الكلاسيكي الذين تشبعوا بالفلسفة الرواقية.
ويتجه الرأي الراجح اليوم إلي القول بأنه وإن كانت المسيحية لم تؤثر في القانون الروماني بصورة كاملة وشاملة إلا أنها مع ذلك كانت ذات أثر عميق وتركت بصماتها واضحة علي هذا القانون خاصة في عهد الإمبراطورية السفلي فكل التطورات التي طرأت علي القانون الروماني في هذا العهد لا يمكن النظر إليها علي أنها مجرد امتداد للأفكار الرواقية كما أنه لا يمكن الزعم بأنها قد جاءت نتيجة التطور الطبيعي والمنطقي للقانون القديم بل يمكن القول بأنها قد جاءت نتيجة تغلب الروح الدينية علي نفوس القياصرة الرومان.
ويظهر أثر المسيحية في القانون الروماني من نواح ثلاث: خلق عقلية جماعية جديدة مما أدي إلي تغيير الأعراف والتقاليد القديمة والتأثير المباشر في التشريعات الإمبراطورية بحيث أدخلت قواعد ونظم قانونية جديدة تماما مثل محاربة الطلاق واستحداث موانع قانونية للزوج تقوم علي أسس عقائدية والجرائم الدينية وأخيرا وبصفة خاصة تطور بعض الأفكار الوضعية القائمة بما يتلاءم مع الأسس الخلقية والفلسفية التي جاء بها الدين المسيحي : ففكرة العدالة وفكرة الغش كلها أفكار كانت موجودة من قبل ولكنها أصبحت تحت تأثير المسيحية تقوم علي أسس جديدة وتغير مضمونها واتساع نطاقها ومداها.
ونعرض فيما يلي بعض النظم القانونية التي تطورت أو استحدثت أو ألغيت تحت تأثير المسيحية سواء في مجال القانون الخاص أو في مجال الجرائم والعقوبات.
أولا – أثر المسيحية في مجال القانون الخاص:
1- نظام الأسرة:
وقد ظهر أثر المسيحية بصورة واضحة في دائرة الأحوال الشخصية وذلك لاتصال نظمها اتصالا وثيقا بالعقيدة والدين.
أ-الزواج                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                     فقد استحدثت الديانة المسيحية موانع قانونية جديدة للزواج منها ما يقوم علي أسس عقائدية مثل تحريم الزواج بين المسيحيين واليهود ومنها ما يقوم علي فكرة القرابة الروحية كتحريم الزواج بين الفتاة والرجل الذي يتولي تعميدها لاعتباره أبا روحيا لها.
وقد عمل القانون الروماني في باديء الأمر علي تشجيع الزواج وكان تكوين الأسرة من أهدافه الرئيسية لذلك اصدر الإمبراطور " أغسطس " قوانين تحارب الأعراض عن الزواج منها القانون الذي يحرم الرجل غير المتزوج ( إذا كانت سنه بين الخامسة والعشرين والستين ) والمرأة غير المتزوجة ( إذا كانت بين العشرين والخمسين من عمرها ) من حقهم في بعض الوصايا إذا ثبت عدم وجود عذر يمنع أحدهما من الزواج وتسمي هذه القوانين لذلك " بالقوانين المسقطة ".
ولكن تحت تأثير المسيحية التي تدعو إلي الرهبنة وتعتبرها إحدي الفضائل وسبيلا من سبل الحياة الطاهرة والسعادة الدينية قرر الإمبراطور " قسطنطين " إلغاء هذه القوانين في عام 320م.
ب- الطلاق:
لم يكن هناك قيود علي الطلاق في باديء الأمر فقد أجاز الروماني القديم لكل من الزوجين أن يستعمل حقه في الطلاق متي شاء ودون ما حاجة إلي القانون اللجوء إلي القضاء وفي أواخر عهد الجمهورية وأوائل الإمبراطورية انتشر الطلاق انتشارا هائلا وعم بين طبقات الأمة بسبب فساد الأخلاق وسوء العادات ولكن تحت تأثير المسيحية التي تعتبر الزواج رابطة أبدية بين الزوجين عمل الأباطرة منذ عهد " قسطنطين " علي تقييد استعمال الحق في الطلاق وذلك بتحديد الأسباب التي تبرر التطليق وتقرير عقوبات مالية وشخصية علي من يطلق زوجته لغير هذه الأسباب ومن هذه العقوبات ما قرره قسطنطين من تحريم الزواج ثانية علي الرجل الذي يطلق زوجته علي أن هذه القيود وإن كانت قد حدت كيرا من استعمال حق الطلاق فإنها لم تؤد إلي إلغائه: فقد كانت العادات والتقاليد المتأصلة في نفوس الرومان أقوي من التدابير والعقوبات ومن ثم بقي الطلاق شائعا ومستحبا وظل منوطا بإرادة الزوجين واختيارهما وكان يقع دون حاجة لحكم من القضاء وكان الرومان يعتبرونه عملا خاصا لا دخل للحكومة فيه.
ج- السلطة الأبوية:
كما ظهر أثر المسيحية أيضا في التخفيف من سلطة رب الأسرة وقسوتها فلم تعد هذه السلطة تقوم علي أساس القوة وإنما علي أساس البر والرحمة ولم تعد مطلقة وغير مقيدة وإنما أصبحت تمثل واجبا بالجماعة والمساعدة فحرم علي رب الأسرة أن ينبذ مولودا له كما حرم عليه بيع أولاده أو قتلهم أو تسليمهم للمجني عليه في جريمة مع ترك حق التأديب البسيط للأب علي أبنه وأوجب القانون علي الأب مساعدة ابنه المحتاج بقدر حاجته وأعطي الابن الحق في مطالبة الأب بالنفقة كما اعترف للابن بالحق في أن يتملك بعض الأموال وبأهلية التعاقد عن نفسه إيجابيا وسلبيا أي ليكسب حقا أو يلتزم بواجب ولم يعد للأب الحق في حرمان وريثه بدون حق من إرثهم واستحدث القانون الروماني تحت تأثير المسيحية أيضا نظام منح البنوة الشرعية أو تصحيح النسب للولد الطبيعي الناتج من المعاشرة غير الشرعية: وبيان ذلك أنه في العصور الوثنية لم يكن هناك اعتبار إلا للقرابة المدنية وبالتالي فإن الولد الطبيعي لا ينسب لا إلي أبيه ولا إلي أمه ولم يكن له أي حق قبلهما وعندما بدأ القانون في الاعتراف بقرابة الدم امتدت آثارها إلي جميع الأولاد بالنسبة لأمهم أما الأبوة الطبيعية فلا اعتبار لها ولا يعتد بها من الناحية القانونية إلا كمانع من موانع الزواج.
أما في العهد المسيحي فقد تعدلت هذه الحالة نظرا لكراهة الديانة المسيحية للصلات غير الشرعية من جهة وشفقة بأولاد المعاشرة ومساعدتهم في إزالة هذه الوصمة عنهم من جهة أخري ويتم تصحيح النسب للولد الطبيعي بطرق ثلاث: إما بالزواج اللاحق بين الرجل وخليلته وإما بقرار من الإمبراطور بناء علي طلب من الوالد وإما بنذر الولد إلي المجالس البلدية فإذا تم تصحيح النسب فإن الولد الطبيعي يخضع لسلطة والده ويكون له حقوق الابن الشرعي نحو أبيه.


د- التبني:
 كان القانون الروماني القديم لا يعترف للمرأة بأهلية التبني ولكن القانون الحديث قد سمح لها بذلك إذا لم يكن لها أولاد وبشرط استئذان الإمبراطور وقد جاء هذا التحول كنتيجة لتأثر القانون الروماني بالديانة المسيحية.
2- نظام الرق:
لم يكن للمسيحية إلا أثر ضعيف في مجال لبرق فهي لم تؤد إلي إلغائه كلية ومع ذلك يمكن القول بأن حالة الأرقاء قد تحسنت كثيرا بفضل انتشار المسيحية في عهد الامبراطوري : فقد توسع القانون في الاعتراف بشخصيتهم وقلت أسباب الاسترقاق وزادت وسائل العتق وأسبابه: فحرم السيد من ملكيته علي الرقيق إذا نبذه لمرضه أو شيخوخته أو عند ولادته كما استحدث القانون طريقة جديدة للعتق تسمي " العتق في الكنيسة " حيث يتم العتق بإعلان رسمي يصدر من السيد في الكنيسة بحضور رجال الدين.
3- نظام الالتزامات:
ويبدو أثر المسيحية في مجال العقود والالتزامات واضحا في النواحي الآتية:
أ- مبدأ سلطان الإرادة:
كان القانون الروماني في عهوده الأولي يخضع العقود والمعاملات لإجراءات معقدة وشكلية صارمة بحيث لا ينتج العقد آثاره ما لم يكن قد أفرغ في قالب من قوالب الشكلية التي حددها القانون أما مجرد توافق الإرادتين فلم يكن كافيا لإنشاء الالتزام: فالالتزام عن الأوضاع الشكلية ذاتها وليس من اتفاق الطرفين وهو ينشأ بمجرد القيام بتلك الإجراءات بغض النظر عما قد يشوب إرادة أحد المتعاقدين من عيوب وبغض النظر كذلك عن عدم وجود تعادل بين التزامات المتعاقدين.
أما القانون الكنسي فقد غلب مبدأ سلطان الإرادة علي مبدأ الشكلية وذلك كنتيجة لما تتضمنه المسيحية من الدعوة إلي احترام العهود والتزام الإنسان بعبارته وقد تضمن القانون الكنسي في القرنين الرابع والسادس من الميلاد كثيرا من النصوص التي تشبه الكذب بالحنث في اليمين وتعتبر مجرد الوعد المنطوق به كالوعد المؤيد باليمين أضف غلي ذلك ان الكنيسة كانت تدعو دائما إتباعها إلي عدم القسم بالله خشية الحنث في اليمين وكل ذلك أدي بطبيعة الحال إلي احترام الإرادة والاعتراف لها بالقدرة علي إبرام العقد وتعديل شروطه حتي ولو لم تكن قد أفرغت في قالب من القوالب الشكلية التي حددها القانون الروماني.
ب- نظام الفوائد :
كان القانون الروماني يعترف بالقرض بفائدة وكان سعر الفائدة في ظل قانون الألواح ألاثني عسر يصل أحيانا إلي 100% من أصل الدين ولكنه حدد في العصر الإمبراطوري بحيث لا يتجاوز 12% في السنة.
وقد عمل الأباطرة الرومان تحت تأثير المسيحية علي الحد من استغلال الدائنين للمدينين وذلك عن طريق تخفيض سعر الفائدة وتحديده بنسبة معينة وتحريم الفوائد الفاحشة أي التي تزيد عن الحد القانوني ولكنهم لم يتوصلوا إلي تحريم الربا كلية وإلغاء القرض بفائدة.
ج- فكرة الثمن العادل:
أخذ القانون الروماني كذلك عن القانون الكنسي فكرة الثمن العادل ذلك أن البيع كان يصح في القانون الروماني حتي ولو كان ينطوي علي غبن فاحش بالنسبة لأحد الطرفين البائع أو المشتري طالما أن هذا البيع كان خاليا من الغش أو نقص الأهلية ولكن تحت تأثير المسيحية التي تنادي بالعدالة في المعاملات والاعتدال في الأرباح أي بضرورة التعادل بين الالتزامات التي ينشؤها العقد علي كل من الطرفين قرر الإمبراطور " جستيان " أنه يجوز للبائع الرجوع في البيع بسبب الغبن إذا كان الثمن أقل من نصف قيمة ما باعه فإذا أراد المشتري إبقاء العقد كان عليه أن يكمل الثمن إلي نصف القيمة.
ثانيا: أثر المسيحية في النظام الجرائم والعقوبات:
ترتب علي انتشار المسيحية واعتبارها الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية أن زاد عدد الأفعال التي يحرمها القانون فأصبح الكفر والإلحاد جريمة يعاقب عليها القانون بعد أن كان مباحا في العهود السابقة كما وضعت الدولة العديد من التشريعات لمحاربة الإهمال الاجتماعي وفساد الأخلاق المنتشر في البلاد والفوضي الإدارية ورشوة الموظفين وزاد عدد الأفعال التي يعاقب عليها القانون بإعدام من ذلك مثلا أن عقوبة الزواج بالمحارم ( كالزواج بين الأصول والفروع ) أصبحت هي الإعدام وكان يجوز للرقيق أن يعاشر سيدته الحرة معاشرة جنسية إلا أنه تحت تأثير المسيحية أصبحت هذه المعاشرة زنا معاقبا عليه بالإعدام.
وقد تهذبت بعض النظم القديمة تحت تأثير المسيحية ونذكر علي سبيل المثال نظام الدفاع الشرعي : ففي ظل القانون الروماني القديم كان للمعتدي عليه الحق في قتل المعتدي دفاعا عن نفسه أو عرضه أو ماله إلا أن هذه القاعدة قد تعدلت في العهد المسيحي بحيث أصبح القتل غير جائز دفاعا عن المال واشترط القانون لجواز الالتجاء إلي القتل دفاعا عن النفس ألا يكون لدي المعتدي عليه وسيلة أخري للنجاة من الخطر المحدق به.
المطلب الثاني
دور الإسلام في تطور القانون العربي القديم
كان المجتمع العربي في الجاهلية مجتمعا مفتتا من الناحية السياسية إلي وحدات متعددة قائمة بذاتها تمثلها القبائل المختلفة.
فكل قبيلة تعيش مستقلة عن الأخري وتضم مجموعة من الأفراد الذين ينتسبون إلي أصل واحد أو جد مشترك وتربط بينهم بالتالي رابطة العصبية للأهل والعشيرة وتسيطر علي أفراد القبيلة فكرة التضامن المطلق في الحقوق والواجبات لأن فلسفة العصبية القبلية تقوم دائما علي أساس نصرة الفرد لأبناء قبيلته ظالمين كانوا أو مظلومين : فالفرد يلبي نداء قبيلته إذا دعته إلي نصرتها في ساعات الخطر ويقبل تحمل مسئولية أعمال غيره فيساهم في دفع الديات للقتلي من القبائل الأخري أو الفداء عن الأسري من قبيلته.
وكان لكل قبيلة مجلس من شيوخها يرأسه شيخ يختارونه من بينهم ويسمونه الرئيس أو الشيخ أو الأمير أو السيد يتولي تصريف أمور القبيلة الداخلية والخارجية.
وتخضع العلاقات والصلات بين القبائل العربية المختلفة لقانون البادية وقوامه " الحق في جانب القوة ": فمن كان سيفه أقوي وأمضي كانت له الكلمة والغلبة وكان الحق في جانبه ذلك أنه لم تكن هناك سلطة سياسية عليا تنتظم القبائل المختلفة ومن ثم فإن قواعد السلوك التي تحكم نشاط الأفراد داخل القبيلة لم تكن تتعدي حدود هذه القبيلة أو حدود القبائل المنتمية إلي جد واحد ولذلك فإن القوة كانت هي الأساس الذي تدور حوله العلاقات بين القبائل العربية.
أما داخل نطاق القبيلة فإن الأفراد يخضعون في علاقاتهم لمجموعة العادات والتقاليد التي تعارفوا عليها وقد نتج عن ذلك أن النظم القانونية لدي عرب الجاهلية لم تكن قائمة علي شريعة متجانسة بل خليط من عناصر متنافرة بعضها يرجع إلي عادات وتقاليد عربية خالصة تختلف باختلاف القبائل والبعض الآخر إلي مباديء الشريعة الموسوية أو مباديء الشريعتين الرومانية والساسانية التي تأثر بهما نظام المعاملات المالية في المدن من جراء العلاقات التجارية التي كانت قائمة بين هذه المدن من جهة والعراق الساساني وسوريا الرومانية من جهة أخري.
ومن هذا العرض يتبين أن النظام الذي كان سائدا في شبه الجزيرة العربية عند ظهور الإسلام من النظم البدائية ذات الطابع المحلي الذي لا يمت بصلة للأفكار الفلسفية أو لنظم الحكم التي كانت سائدة في العالم وقتذاك وظاهر أيضا آفاق التفكير لدي العرب كانت محددة جدا بحكم المكان وبحكم البيئة وأن القانون لديهم لم يتعد مجموعة من الأعراف والتقاليد السائدة بين القبائل فلم يكن هناك قواعد قانونية مقننة وهذا أمر طبيعي لأن التقنين هو دائما – كما سبق أن رأينا – وليد السلطة العامة لموحدة والمنظمة.
وعلي ذلك فإن ظهور الإسلام يعد بحق بمثابة ثورة دينية وسياسية واجتماعية أو بمعني آخر انتقالا حاسما في تاريخ العرب إذ جعل لهم دينا واحدا يدعو إلي الوحدانية وحقق لهم وحدتهم السياسية وجعل من العرب أمة موحدة قوية حققت من الفتوحات مثلما حققته الإمبراطوريات القديمة ومن الطبيعي أن ينعكس أثر هذا التحول الخطير علي النظم القانونية : فقد أقر الإسلام بعض النظم القديمة بينما ألغي بعضها الآخر أو عدله بما يتلاءم والأسس التي يقوم عليها كما أنشأ نظما أخري جديدة فالإسلام لم يكن دينا فحسب وإنما كان دينا ودولة وعقيدة وشريعة يتضمن بجانب شئون العقائد نظاما شاملا لشئون الدنيا في مختلف ميادين النشاط الإنساني.
ونتتبع فيما يلي دور الإسلام في تطور القانون العربي الجاهلي وذلك من خلال عرضنا لبعض النظم القانونية لدي العرب وبيان موقف الشريعة الإسلامية إزاء هذه النظم.
أولا – الإسلام وتطور نظام الحكم:
  رأينا فيما سبق أن المجتمع العربي في العصر الجاهلي كان يتكون من مجموعة من الكيانات السياسية المتمثلة في القبائل المختلفة وأن كل قبيلة كانت تعتبر وحدة سياسية قائمة بذاتها تخضع لسلطة رئيسها الذي يتولي إدارة شئونها الداخلية ويمثلها أما الجماعات أو القبائل الأخري.
ويتولي اختيار رئيس القبيلة مجلس من شيوخها وكانوا يشترطون في اختياره أن يكون من أشرف رجال القبيلة وأشدهم عصبية وأكثرهم مالا وأكبرهم سنا وأعظمهم نفوذا وكان من الضروري أن تتوافر فيه صفات محمودة كالسخاء والبيان والحلم والحكمة والحنكة والشجاعة فرب هفوة صغيرة تصدر منه تثير حربا أو تسبب كارثة للقبيلة التي يتزعمها.
ولم يكن العرب يقبلون مبدأ الوراثة في الحكم فلم تكن السلطة والسيادة داخل القبيلة تنتقل بالضرورة إلي أحد أبناء رئيس القبيلة بعد وفاته.
ومن النادر أن يستبد شيخ القبيلة في حكمة وإدارته وتصريفه للشئون الداخلية والخارجية فقبل الإقدام علي أمر ما – خاصة إذا كان هذا الأمر علي درجة معينة من الأهمية – أو اتخاذه لقرار معين كان يجب عليه أن يتشاور مع غيره من أهل الرأي في القبيلة.
اثر الإسلام :
حقق الإسلام للعرب وحدتهم السياسية وجعل منهم أمة موحدة قوية تحت إمرة الرسول صلي الله عليه وسلم ثم الخلفاء الراشدين من بعده وقد شيد فقهاء الإسلام نظرية عامة وكاملة لنظام الخلافة ( رئاسة الدولة الإسلامية ) بعد أن أجمعت الأمة الإسلامية بطوائفها ومذاهبها المختلفة علي وجوب وجود خليفة للرسول يقوم علي حراسة الدين ويحكم بين الناس بما أنزل الله فبينوا طريقة اختيار الخليفة والشروط الواجب توافرها فيه والوجبات الملقاة علي عاتقه وطريقة عزله إذا لم يعد صالحا لرئاسة الدولة الإسلامية.
وتختلف الخلافة عن سائر الرياسات العليا في الحكومات الدستورية في أنها أي الخلافة تعتبر رياسة عامة في أمور الدين والدنيا: فكما أن الخليفة تشمل ولايته التشريع والقضاء والتنفيذ وغير هذا مما تقضي به سياسة الدولة ونظام الشئون الدنيوية فإن له أيضا إمامة الصلاة وإمارة الحج والإذن بإقامة الشعائر في المساجد والخطبة في الجمع والأعياد وغير هذا من الشئون الدينية ومنشأ الجمع بين الولايتين له أن الغاية من إقامته ومبايعته أن يقوم بحراسة الدين وسياسة الدنيا به وذلك قاض بأن يكون له النظر في الشئون الدينية والدنيوية معا.
علي أن عموم ولاية الخليفة وشمولها للشئون الدينية والدنيوية معا لا يعني أبدا أن الخليفة في الإسلام ذو صلة إلهية أو أنه يستمد سلطانه وسيادته من قوة غيبية فما هو إلا فرد من المسلمين وثقوا بكفايته لحراسة الدين وسياسة الدنيا به فبايعوه علي أن يقوم برعاية مصالحهم وله عليهم حق السمع والطاعة وسلطانه مكتسب من بيعتهم له وثقتهم به وكثير من آيات القرآن الكريم تنفي أن يكون للرسول سلطة دينية علي أحد وأولي ألا تكون هذه السلطة لواحد من خلفائه قال تعالي : (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليفعل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ).
وتقوم فلسفة نظام الحكم في الإسلام علي أساس من العدل والشوري والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالعدل أساس الحكم في الإسلام وقد أمر به الله سبحانه وتعالي في كتابه الكريم حيث يقول : ( أن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلي أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) أما الشوري فهي وسيلة الحكم في الاسلام يقول الله سبحانه وتعالي : ( وأمرهم شوري بينهم ) ويقول تعالي أيضا مخاطبا الرسول الكريم ( وشاورهم في الأمر ) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو ضمان الحكم العادل السليم قال تعالي : ( ولتكن منكم أمة يدعون إلي الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ).
ثانيا: - الإسلام وتطور نظام الأسرة:
كان للإسلام دوره الواضح في تطور نظام الأسرة في القانون العربي القديم فقد ألغي بعض العادات والتقاليد التي تتنافي مع مبادئه واستبقي بعض التقاليد التي تتمشي مع تعاليمه كما استحدث قواعد ونظم جديدة وذلك كله علي النحو التالي :
1- الزواج :
كان الزواج في الجاهلية مطلقا لا حد لتعدد الزوجات فيه فلم يكن العربي في الجاهلية يكتفي بزوجة واحدة وإنما كان يعدد من الزوجات إما بقصد إعالتهن أو لغرض سياسي عن طريق المعاهدة أو بقصد الإكثار من الذرية وكان الزواج أنواعا منها :-
زواج الصداق أو البعولة: ويتم بأن يخطب الرجل من الرجل أبنته فيصدقها بصداق يحدد مقداره ثم يعقد عليها وكانت قريش وكثير من قبائل العرب يؤثرون هذا النوع من الزواج.
زواج المتعة: وهو أن يتزوج الرجل المرأة إلي أجل فإذا انقضي افترقت عنه وفي هذا الزواج يقدم الزوج صداقا معينا ويكون لأولاده حق الانتساب إليه وحق الإرث.
زواج السبي: ومعناه أن يتزوج الرجل المحارب من إحدي النساء اللائي وقعن سبيا ولا يشترط في هذا الزواج أن يدفع الزوج صداقا.
زواج الإماء: وكان من حق العربي أن يتزوج من أمته فإذا أنجب منها أبناء لا يحق لهم أن يلحقوا بنسبه بل يظلوا عبيدا له وقد يعتقهم إذا رغب في ذلك.
زواج المقت: وهو أن يتزوج الرجل زوجة أبيه كجزء من ميراثه وهناك أنواع أخري من الزواج كانت معروفة في الجاهلية ولكن المجتمع العربي لم يكن يقرها مثل زواج الأخدان وزواج البغايا وزواج الشغار.
وكان من الجائز عند عرب الجاهلية أن يجمع الرجل بين المحارم كالأختين والأم وابنتها.
أثر الإسلام:
فلما جاء الإسلام أقر مبدأ الزواج الفردي واعتبره القاعدة أو الأصل وقيد مبدأ تعدد الزوجات فجعل للرجل الحق في أن يتزوج بأربع زوجات شريطة أن يكون لديه القدرة علي القيام بأعباء الزوجية كاملة من كل النواحي مع تحقيق العدالة التامة بينهن في المعيشة والمعاشرة وعدم الخوف من الجور في معاملتهن قال تعالي : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثني وثلاث وأربع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدني إلا تعولوا )
وقد أبطل الإسلام زواج المتعة والبغايا واعتبر زواج الشغار زواجا مقتربا بشرط غير صحيح فيصح الزواج ويلغي الشرط ويجب فيه مهر المثل.
وقد حرم القرآن زواج الرجل بالمرأة إذا وجدت بينه وبينها رابطة قرابة أو رضاع أو مصاهرة ونهت السنة عن الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها وحرمت من الرضاع ما يحرم من النسب كما حرم القرآن زواج المسلمة بمشرك يقول تعالي :( ولا تنكحوا المشركات حتي يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتي يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم ) وحرم أيضا زواج المحصنة بزان أو المحصن بزانية فقال تعالي :  ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك علي المؤمنين ) وأحل نساء أهل الكتاب فأجاز للمسلم أن يتزوج بمسيحية أو يهودية ولكنه حرم علي المسلمة أن تتزوج بغير المسلم أيا كانت عقيدته.
2- الطلاق:
كان الطلاق مباحا عند عرب الجاهلية ولا حد لعدد الطلقات فيه فكان الرجل يطلق امرأته ويرجعها وهي في العدة ويكون ذلك له ما شاء أن يطلق.
وقد عرف العرف أنواعا متعددة من الطلاق منها طلاق " الإيلاء " وهو طلاق مؤقت يقسم فيه الزوج علي ألا يقرب زوجته مدة معينة ومنها طلاق " الظهار " وهو طلاق أبدي لا رجعة فيه ويتم بقول الزوج لزوجته : ( أنت علي كظهر أمي ).
فإذا طلقت المرأة أو مات زوجها كان عليها أن تقضي عدة حول لا تتزوج خلاله حتي يتضح ما إذا كانت قد حملت من زوجها أو لم تحمل حفاظا علي الأنساب.
أثر الإسلام:
نظم الإسلام الطلاق وقيده بثلاث طلقات فقط يسقط بعدها حق الزوج في إرجاع زوجته وأبطل الظهار فأصبح لا يعتبر طلاقا وإنما قول باطل يلزم معه لحل الزوجة الكفارة: عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا وحدد مدة الإيلاء بأربعة أشهر فقط لما فيه من ظلم الزوجة وتفويت حقها عليها قال تعالي : ( للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءو فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ).
أما بالنسبة لمدة العدة فقد حددها القرآن الكريم بمدد تتفاوت بحسب ما إذا كانت المرأة قد طلقت أو مات عنها زوجها : فبالنسبة للمطلقة فإن عدتها تكون ثلاثة قروء إذا كانت من ذوات الحيض ولم تكن حاملا فإذا كانت حاملا فإن مدة العدة تمتد حتي تضع حملها.
أما الأيسات ( من لم تحض ) فإن عدتهن ثلاثة أشهر وبالنسبة لمن توفي عنها زوجها فإن مدة العدة التي يجب عليها أن تقضيها قبل الاقتران بآخر هي أربعة أشهر وعشرة أيام من وقت الوفاة إذا لم تكن حاملا وأعفي الإسلام المرأة التي لم يمسها زوجها من قضاء العدة.
3- السلطة الأبوية:
كانت الزوجة وجميع الأبناء يخضعون لسلطة رب الأسرة والأصل أن هذه السلطة لم تكن تمتد إلي أشخاص الأبناء وأموالهم وإنما كانت سلطة خاصة بالإشراف والرعاية علي أن نظرا لاعتماد العرب علي الذكور في الصيد والغزو والحرب بجانب المحافظة علي النسب فقد انتشرت في بعض القبائل العربية وأد البنات ويصف القرآن الكريم هذه الحالة بقولة: ( وإذا بشر أحدهم بالأنثي ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتواري من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه علي هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون ).
أثر الإسلام:
وقد أقر الإسلام سلطة رب الأسرة علي أبنائه وذلك بما ل من ولاية النفس عليهم وهذه السلطة ليست مطلقة لأنها لا تمتد  إلي أشخاص الخاضعين لها ولا تخول الأب أكثر من حق التأديب والتعليم والتهذيب وقد ألغي الإسلام عادة وأد البنات واعتبرها وإنما وخطئا كبيرا أيا كان الدافع وراء ذلك يقول تعالي: ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا ) ويقول تعالي أيضا: ( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ).
4- الإرث:
كان الإرث عند عرب الجاهلية يقوم علي أساس المناصرة والدفاع عن الأسرة ولذلك كان الحق في الإرث مقصورا علي الذكور من الأبناء البالغين دون الصغار والنساء لأنهم هم الذين يحملون السيف ويحمون الحوزة ولم يكن لغير الأبناء نصيب ويقوم مقام الابن أقرب الأولياء بعده وهو الأب ثم الأخ ثم العم وهكذا وقد عرف العرب بجانب ذلك النوع من الميراث المحصور في دائرة العصب أنواعا أخري منها ميراث التبني وميراث الولاء وفيها يقوم الإرث أيضا علي أساس المناصرة والدفاع.
أثر الإسلام:
جعل الإسلام في بادئ الأمر أساس الإرث هو الإسلام والهجرة لما كان يرمي إليه من تكوين أمة إسلامية يرتبط أعضاؤها برباط متين ثم جعل الإرث بعد ذلك للأقرب فالأقرب فقال تعالي: ( وأولوا لأرحام بعضهم أولي ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين ) وهدم قاعدة الجاهلية التي تقضي بقصر الاستحقاق في التركات علي الرجال البالغين فقط دون النساء والأطفال فقال تعالي: ( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو أكثر نصيبا مفروضا ) وبين نصيب كل وارث من الأبناء وغيرهم وحدد موانع الإرث وحصرها في الرق والقتل واختلاف الدين والردة واختلاف الدار طبقا لبعض المذاهب ونسخ الإرث بالتبني والإرث بالولاء.
ثالثا - نظام الرق:
كان الرق نظاما شائعا في العالم وكل ما كانت تختلف فيه الأمم هو حسن معاملة الرقيق أو سوؤها فقد عرف اليهود الرق وأمرت الديانة اليهودية بحسن معاملة الرقيق وحددت زمن الاسترقاق بسبع سنوات يصبح بعدها الرقيق حرا وعرف الإغريق والرومان الرق وكان القانون الروماني يخول السيد حق الحياة أو الموت علي عبيده وكان العرب في جاهليتهم يغزو بعضهم بعضا ويستولون علي رجال بعضهم ونسائهم فيكونون أرقاء وكان لهم أسواق يباع فيها الرقيق وكان للسيد علي رقيقة حق ملكية شأنه في ذلك شأن المتاع فله الحق في بيعه وهبته وإذا كان الرقيق أمة جاز للسيد أن يستمتع بها فإذا أنجب منها أبناء لا يحق لهم أن يلحقوا بنسبه بل يظلوا عبيدا له.
أثر الإسلام:
بالرغم من تعاليم الإسلام التي تدعوا إلي العدالة والمساواة بين الناس جميعا فقد استمر نظام الرق قائما بسبب الظروف الاقتصادية والسياسية إلا أن الإسلام عمل علي التضييق من أسباب الاسترقاق فحصرها في الحرب والولادة : فإذا حارب المسلمون الكافرين فمن أسر من المحاربين منهم جاز للإمام استرقاقه كما يجوز له أن يسترق أهل البلد الذي فتح عنوة رجالا كانوا أو نساء ولا يشترط لأجل بقاء الرق سببه فلو وقع كافر في الأسر فاسترق ثم أسلم لا يزول عنه الرق ولا يجوز استرقاق المسلم ولو كان من المحاربين كما رغب الإسلام ترغيبا شديدا في تحرير الرقاب وإزالة صفة العبودية عن الرقيق فجعله أول الواجبات علي الإنسان إذا أراد أن يشكر الله علي نعمه فقال تعالي : ( فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة ).
وجعل تحرير الرقاب في مقدمة كفارات كثيرة ومنها كفارة القتل الخطأ وكفارة الظهار وكفارة اليمين وجعل من مصارف الزكاة سهما من ثمانية لتحرير الرقيق: فالإمام الذي يأخذ الزكاة من المسلمين يجب عليه أن يخصص ثمنها لتحرير الرقاب.
وقد أوجب الإسلام حسن معاملة الرقيق فإذا عاشر السيد أمته معاشرة جنسية فولدت منه فإنها تسمي " أم الولد " ولا يصح لسيدها أن يبيعها أو يهبها أو يورثها لشخص آخر وهذا رأي جمهور الفقهاء ولكنها تبقي حلاله حتي يموت فإذا مات صارت حرة وتجري عليها كل أحكام الحرائر وكذلك الأولاد الذين ولدوا منها فهم أحرار وحرم الإسلام علي المسلم أن يتسري بأمة متزوجة بغيره أو أن يجمع بين الأختين.
رابعا- الإسلام وتطور نظم الملكية والمعاملات:
يمكن تقسيم أسباب الملك عند العرب في العصر الجاهلي إلي قسمين:
1- أسباب منشئة للملك مثل الاستيلاء علي الأشياء المباحة ووضع اليد عليها وكذلك الأشياء الناتجة عن الإغارات والحروب التي شاعت بين عرب الجاهلية.
2- أسباب تنتقل الملك من سلطان شخص إلي سلطان شخص آخر ويمثل ذلك العقود الناقلة للملك مثل البيع والصدقة والوصية والهبة والميراث.
أما البيع فقد كان يتم عن طريق المقايضة أي مبادلة سلعة بأخري مساوية لها في القيمة وأحيانا بثمن من نقود مستعارة من فارس والروم إذ لم يكن للعرب نقود خاصة بهم ولذلك نجد أسماء النقود عندهم مماثلة لأسمائها عند اليونان والرومان.
وأما المداينات فقد كانت تعتمد عند العرب اعتمادا كبيرا علي الربا وهو الزيادة في مقابل تأجيل الدين لمن عجز عن الوفاء فإذا تداين شخصان إلي أجل وحل هذا الأجل قال الدائن للمدين " أد أو أرب " فإن لم يؤد ضاعف عليه الدين: فإن كان ناقة ذات سن جعلها من السن التي تليها وإن كان قدحا من الطعام جعله قدحين.
إثر الإسلام:
أقر الإسلام نظام الملكية الخاصة ولكنه نظمها بما يتلاءم مع مباديء الخير والعدل التي أتي بها فلم يجز الاستيلاء إلا علي الأموال المباحة أو التي لا مالك لها وحرم الغضب والإضرار بأموال الغير أو وضع اليد عليها دون سبب مشروع فقال تعالي: ( يأيها الذين ءامنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ).
ووضع الإسلام علي حق الملكية قيودا شرعية كثيرة تضمن تحقيق مصالح المالك ومصالح جماعة المسلمين في نفس الوقت بغير ضرر ولا ضرار وكره أن يكون المال دولة بين الأغنياء فقرر نظام الزكاة ونظام الفيء وهو خمس الغنائم وذلك لتقريب الفوارق بين الطبقات.
أما بالنسبة للمعاملات والعقود فقد تعرض لها القرآن بطريقة إجمالية وقواعد كلية تاركا التفاصيل والجزئيات للسنة النبوية الشريفة وللمجتهدين من الأمة.
ومن القواعد الكلية التي أتي بها القرآن الأمر بالوفاء بالعقود: فقد ورد هذا الأمر في صيغة عامة بحيث يشمل جميع الالتزامات التي يلتزم بها الإنسان قال تعالي : ( يل أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ).
وتعرض القرآن للبيع بصفة خاصة وهو أهم أنواع المبادلات وبين أنه حلال لا ريب فيه ولكنه حرم الربا وأمر الدائن أن يمهل مدينه المعسر إلي حين تتحسن أموره المالية دون أن يضاعف عليه الدين.
خامسا- الإسلام وتطور النظام الجزائي ( الجرائم والعقوبات ):
سبق أن رأينا أن القوة كانت هي الأساس الذي تدور حوله العلاقات بين القبائل العربية المختلفة فالحق هو القوة أو الحق في جانب القوة وكانت القبيلة تعتبر كتلة واحدة  إيجابا وسلبا إذ يرتبط أفرادها برابطة التضامن في الحقوق والواجبات.
وفي بعض الأحيان كانتا قبيلة الجاني تلجأ تجنبا لويلات الحرب والدمار إلي التخلي عن الجاني وذلك بخلعه في المجتمعات العامة ولكن قلما كان ولي المجني عليه يكتفي بالقصاص من الجاني وحده ولا سيما إذا كان المجني عليه شريفا أو سيدا في قومه إذ كانوا يتوسعون في مطالبهم توسعا قد يؤدي إلي نشوب الحرب بين القبيلتين.
وفي أحيان أخري كانت القبائل المتصارعة تلجأ إلي التصالح علي دية تدفعها قبيلة الجاني إلي قبيلة المجني عليه علي أن نظام الدية لدي العرب لم يكن سوي علاج وقتي لاتقاء الحرب ووسيلة اختيارية لتعويض المجني عليه فإذا رفضت قبيلة الجاني دفع الدية أو إذا لم ترض قبيلة المجني عليه عادت الأمور إلي فطرتها وصار الحكم للقوة.
أما داخل دائرة القبيلة فكان الأفراد يخضعون لمجموعة العادات والتقاليد التي درجوا عليها جيلا بعد جيل ولم تكن هناك ضوابط محددة للجريمة كما لم تكن العقوبات المقررة للأفعال المجرمة عادلة فالقتل والسرقة والزنا مثلا أفعال محرمة إلا أنه فيما يتعلق بالسرقة كان العرب إذا سرق الشريف منهم تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد وهو قطع اليد فتوقيع العقوبة كما هو واضح يتوقف علي المركز الاجتماعي للجاني وبالنسبة لجريمة الزنا فإن العقوبة المقررة كانت تتمثل في الرجم بالحجارة للزاني والزانية دون تفرقة بين المحصن وغير المحصن.
أثر الإسلام:
استحدث الإسلام مبدأ شخصية المسئولية والعقوبة بحيث لا يسأل عن الجريمة سوي فاعلها سواء كان شريفا أو حقيرا كما بين الأفعال التي تعتبر جرائم وحدد العقوبة الخاصة بكل جريمة وتسمي الجرائم المبينة في القرآن باسم " جرائم الحدود " وترك أمر بعض الأفعال لسلطة ولي الأمر التقديرية فهو الذي يقدر الجريمة ويطبق العقوبة التي تتفق مع حالة الجاني وظروفه ويسمي هذا النوع الأخير من الأفعال باسم " جرائم التعزير " وعلي ذلك فالجرائم التعزيرية هي التي لم ينص الشارع علي عقوبة مقدرة لها بنص قرآني أو حديث نبوي مع ثبوت نهي الشارع عنها لأنها فساد في الأرض أو تؤدي إلي فساد فيها. 
والعقوبات التعزيرية ليست مقدرة فهي تبدأ بأتفه العقوبات كالنصح والتوبيخ وتنتهي بأشدها كالحبس والجلد وقد تصل إلي القتل.
وجرائم الحدود هي: الاعتداء علي النفس والسرقة وقطع الطريق والزنا والقذف بالزنا وشرب الخمر وهذه الجرائم لها شروط لا تقوم بغير توافرها فإذا توافرت هذه الشروط وجب فيها الحد وهو عقوبة مقدرة من الشارع لا يجوز استبدالها بغيرها.
الاعتداء علي النفس:
فرق القرآن بين القتل العمد والقتل الخطأ وجعل جزاء الأول هو القصاص من الجاني وحده وجزاء الثاني هو الدية التي تسلم إلي أهل القتيل فقال تعالي: " يأيها الذين ءامنوا كتب عليكم القصاص في القتلي الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثي بالأنثي " وقال تعالي: " ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلي أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلي أهليه وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما".
حد الزاني:
فرض الله سبحانه وتعالي حد الزني في القرآن بدون تفصيل فقال تعالي: " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ".
وجعل عقوبة الأمة الزانية نصف عقوبة الزانية من الحرائر فقال تعالي: " فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما علي المحصنات من العذاب ".
وقد بينت السنة النبوية أن عقوبة الزاني المحصن هي الرجم فقد ورد في صحيح مسلم أن أبا إسحاق الشيباني سأل عبد الله بن أبي أوفي: هل رجم رسول الله صلي الله عليه وسلم؟ قال نعم قال بعد ما أنزلت سورة النور أم قبلها؟ قال لا أدري ".
حد القاذف بالزنا:
اعتبر القرآن الكريم القذف بالزنا من الجرائم الخطيرة التي تمس بكيان المجتمع ونص علي أن عقوبة من يرمي محصنة ثمانين جلدة فقال تعالي: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ".
حد السارق:
حدد القرآن الكريم عقوبة السارق ذكرا أو أنثي بقطع اليد فقال تعالي: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم ".
حد قطع الطريق:
جعل القرآن حد قطع الطريق هو الإعدام أو الصلب أو قطع الأيدي والأرجل من خلاف أو النفي من الأرض فقال تعالي: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم ".
حد شارب الخمر:
لم يحدد القرآن الكريم عقوبة شارب الخمر واكتفي بالنص علي تحريمه فقط ولكن السنة جعلت من شرب الخمر جريمة وبينت أن عقوبة هذه الجريمة هو الجلد.
وفقهاء المذاهب الإسلامية المختلفة متفقون علي أن عقوبة شرب الخمر حد مقدر ولكنهم يختلفون في مقدار هذا الحد فالأحناف والمالكية والحنابلة يذهبون إلي أن حد الخمر ثمانون جلدة بينما ذهب الشافعية والظاهرية والزيدية إلي أن حد الخمر هو أربعون جلدة فقط وليس ثمانين وهذا الاختلاف في الآراء بين فقهاء المذاهب راجع في الحقيقة إلي اختلاف آراء الصحابة أنفسهم حول مسألة عدد الجلدات التي يقضي بها علي شارب الخمر فمن الثابت أن أبا بكر رضي الله عنه كان يضرب شارب الخمر في عهده أربعين جلدة وكذلك كان الحال في السنين الأولي من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلا أنه حدث في عهد عمر ما استوجب إعادة النظر في العقوبة المقررة لشارب الخمر: ذلك أن خالد بن الوليد – كما يروي أبو داود بسنده عن عبد الرحمن بن أزهر – كتب إلي عمر بن الخطاب: " أن الناس قد انهمكوا في الشراب وتحقروا العقوبة " فقال عمر لحامل الرسالة هم عندك فسلهم وعنده المهاجرون الأولون فسألهم فأجمعوا علي أن يضرب ثمانين ويقول راوي الحديث أن علي بن أبي طالب قال: " إن الرجل إذا شرب سكر وإذا سكر هذي وإذا هذي افتري فعليه حد المفتري ".
ومن الملاحظ أن القرآن الكريم قد اهتم بتحريم الأفعال التي يعد من الضرورات الاجتماعية أن يحمي المجتمع منها لأن فيها خرابه ودماره ولأن فيها انتهاكا للحرمات.
ولم يرد في القرآن عقوبات أخري غير ما ذكرنا أما العقوبات التعزيزية فهي كثيرة وتتعدد بتعدد صور الأفعال غير المشروعة أي الأفعال التي تتعارض مع مباديء الدين وقواعد الأخلاق وتعتبر إما معصية بذاتها ( كشهادة الزور والرشوة ... إلخ ) وإما وسيلة لمعصية أكبر وقد أورد ابن تيمية بعضا من هذه الأفعال فذكر: المعاصي التي ليس فيها حد مقدر ولا كفارة كالذي يقبل الصبيان ( أي بشهوة ) ويقبل المرأة الأجنبية أو يباشر بلا جماع أو يأكل ما لا يحل كالدم والميتة أو يقذف في الناس بغير الزنا ويسرق من غير حرز أو شيئا يسيرا أو يخون أمانته كولاة أموال بيت المال أو الوقوف ومال اليتيم ونحو ذلك إذا خانونا وكال وكلاء والشركاء إذا خانوا أو يغش في معاملته كالذين يغشون في الأطعمة والثياب ونحو ذلك أو يطفف المكيال والميزان أو يشهد بالزور أو يلقن شهادة الزور أو يرتشي في حكمه أو يحكم بغير ما أنزل الله أو يعتدي علي رعيته أو يعتزي بعزاء الجاهلية أو يلبي داعي الجاهلية إلي غير ذلك من أنواع المحرمات فهؤلاء يعاقبون تعزيزا وتنكيلا وتأديبا بقدر ما يراه الوالي.
وقد ترك الشارع الإسلامي لولي الأمر سلطة تقدير العقوبات التعزيرية علي ضوء مدي انتشار الفعل أو الذنب بين الناس وعلي حسب حال المذنب ومدي خطورة الفعل الذي ارتكبه وهذه السلطة ليست في الواقع مطلقة وإنما هي مقيدة بقيود ثلاثة وهي:
1- أن يكون الباعث علي تقرير العقوبة هو حماية المصالح الإسلامية المقررة الثابتة لا حماية الأهواء والشهوات باسم حماية المصالح.
2- أن تكون العقوبة ناجعة في القضاء علي الفساد وألا يترتب عليها فساد أشد وأفتك وأضيع لمعني الآدمية والكرامة الإنسانية.
3- أن يكون هناك تناسب بين الجريمة والعقوبة وألا يكون ثمة إسراف في العقاب أو إهمال واستهانة.
المبحث الثاني
أثر الظروف الاقتصادية في تطور القانون
يهتم علم الاقتصاد بدراسة الإنسان في علاقته بالثروة ويبحث في كيفية تكوين وتوزيع واستهلاك الثروات التي تفي بحاجات الجماعات وتقرير أحسن الوسائل ليسر الأمم وهناء الأفراد مع مراعاة ظروف الزمن والبيئة أما القانون فإنه يهتم بتنظيم ظواهر المجتمع القانونية أي الصلات أو الروابط التي يترتب عليها حقوق وواجبات تنفذها السلطة العامة عند الاقتضاء وقد يتبادر إلي الذهن أن الاقتضاء منفصل تماما عن القانون لأن مجال كل منهما يختلف عن مجال الآخر علي أن هذا القول وإن كان ينطوي علي قدر يسير من الحقيقة إلا أنه ليس صحيحا علي إطلاقه إذ لا يمكن في الواقع أن ننكر كلية وجود صلة بين الاقتصاد والقانون: فكلاهما فرع من العلوم الاجتماعية والنظم الاجتماعية المختلفة – كما هو معروف – متشابكة العلاقات بحيث يرتبط بعضها بالبعض الآخر يؤثر فيه ويتأثر به وقد سبق أن رأينا أن النظم القانونية كانت ترتبط في رحلة تطورها الطويلة بالظروف الاقتصادية السائدة في المجتمع وأن انتقال الجماعات البشرية من حالة إلي أخري في حياتها الاقتصادية كان يصاحبه دائما تطور في النظم القانونية: فانتقال الجماعات البشرية من مرحلة الاقتصاد القائم علي مبدأ الاكتفاء الذاتي إلي مرحلة الاقتصاد القائم علي مبدأ التخصص في الإنتاج وتوزيع العمل هو الذي أدي إلي وجود مبادلات تجارية بين الأفراد وظهور العقود بصورها المختلفة مقايضة بيع وديعة رهن إيجار ... إلخ.
وكان للاقتصاد أثره البارز في مجال الأسرة خاصة فيما يتعلق بنظام الزواج وما كان يسبقه أو يعاصره أو يتخلف عنه من آثار مثل تقديم  المهر أو الدوطة العلاقة المالية بين الزوجين النفقة الإرث ... إلخ كما لعب الاقتصاد دورا جوهريا في وجود نظام الملكية وتطوره من الملكية الجماعية إلي ملكية الأسرة ثم إلي الملكية الفردية وتركيز الأموال في أيدي بعض الأفراد دون البعض الآخر هو الذي أدي إلي تفاوت الناس في الثروة وأقسام المجتمع إلي طبقات بعد أن كانوا سواسية في العصور البدائية وعلي ذلك يمكننا أن نقرر أن الظروف الاقتصادية كانت من العوامل الهامة التي ساعدت علي تطور القانون وبلورة أحكامه ومبادئه.

هناك تعليقان (2):

مشاركة مميزة

الالتزام الطبيعي