الحيل الشرعية أو الافتراضات القانونية
ما المقصود بالحيل الشرعية أو الافتراضات القانونية؟
وكيف يمكن التمييز بينها وبين الأفكار القانونية الأخري التي تتشابه معها؟ وما هي
الأسباب التي دعت إلي استعمالها؟ وما هو الدور الذي لعبته في تطوير الشرائع
القانونية؟
المطلب الأول: تعريف الحيلة القانونية وأسباب استعمالها
الفرع الأول: تعريف الحيلة القانونية
الحيلة هي افتراض أمر مخالف للواقع يترتب عليه تغيير حكم
القانون دون تغيير نصه. أو هي الاستناد إلي واقعة كاذبة حتي ينطبق حكم القانون علي
حالة لم يكن يطبق عليها من قبل. وقد عرفها العلامة أهرنج بأنها كذب فني تقتضيه
الضرورة:
ويتبين من هذا التعريف أن الحيلة أو الافتراض القانوني
ينطوي دائما علي تجاهل للواقع الملموس أو مخالفة للحقائق الثابتة بغية الانحراف
بالقاعدة القانونية إلي غرض آخر أو تجاهل وجودها كلية. ولكن ما هو المقصود
بالحقيقة التي يخالفها الافتراض؟ ينبغي أن نستبعد بادئ ذي بدء تلك المخالفة
للحقيقة التي تتضمنها كل قاعدة قانونية نتيجة صياغتها في صورة عامة ومجردة:
فالصياغة القانونية وهي تحاول ضبط الواقع تقوم علي تصور ذهني تحكمي إلي حد ما حتي
يتيسر الوصول إلي غايات عملية معينة. ولنضرب مثالا علي ذلك بقاعدة "عدم جواز
الاعتذار بجهل القانون": فهذه القاعدة تقوم علي افتراض علم الناس بالقانون
والتزامهم بأحكامه بمجرد نفاذه بمعني أنه إذا تم نشر القانون ومضت المدة المحددة
لبدء نفاذه فإن أحدا لا يستطيع بعد ذلك أن يتخلص من تطبيق أحكامه بحجة عدم العلم
به ولكن هذه القاعدة تنطوي علي مخالفة واضحة للواقع ذلك أنه إذا كان هناك بعض
الناس يمكنهم العلم بالقانون أو ببعض أحكامه فإن هناك كثيرا لا يمكنهم العلم بشيء
من القانون ومع ذلك لا يقبل منهم الدفع بعدم العلم بالقانون وهذا الافتراض الذي
لجأ إليه المشرع ضروري ولازم لتطبيق القانون رغم ما فيه من مخالفة ولو جزئية
للواقع الملموس إذا لو أتيح للناس أن يفلتوا من تطبيق القانون بحجة عدم العلم
بوجوده لفقد القانون عموميته لأنه حينئذ لن يطبق إلا علي قلة من الأفراد هم الذين
علموا بوجوده علما حقيقيا.
وعلي ذلك فإن الصياغة الفنية للقواعد القانونية في صورة
عامة ومجردة قد تجعلها غير مطابقة للحقيقة في بعض الأحيان. ويأتي ذلك لأن المشرع
إنما يبني تصوره علي الاحتمالات الغالبة والراجحة في الحياة العملية بحيث يأتي
تعميمه في الاتجاه العادي والطبيعي للأمور علي أنه ينبغي عدم الخلط بين هذه
المخالفة الجزئية للواقع التي تنطوي عليها كل قاعدة قانونية وبين الحيلة القانونية
أو الافتراض القانوني لأن هذا الأخير لا يخالف الحقيقة عرضا أو بصورة جزئية وإنما
يقوم علي أساس أنه دائما أبدا مخالف للحقيقة معا مخالفة صريحة ومقصود.
وإذ انتهينا إلي هذه النتيجة نعود إلي السؤال الذي
طرحناه آنفا: ما المقصود بالحقيقة التي يخالفها الافتراض القانوني؟ لقد اختلف
الفقهاء في الإجابة علي هذا السؤال ويمكن بصفة عامة أن نحصر الآراء التي قيلت في
هذا الشأن في اتجاهات ثلاثة علي النحو التالي:
الاتجاه الأول: الافتراض يقوم علي مخالفة الحقائق
الطبيعية: يذهب أنصار هذا الرأي إلي أن الحيلة القانونية تقوم علي الحقائق
الطبيعية. أما إذا خالفت الحقائق القانونية أي الأحكام القانونية الفنية التي
صنعها المشرع بنفسه فإن المخالفة لا تنطوي في هذه الحالة علي حيلة بل علي إلغاء
القاعدة السابقة أو استثناء منها.
والحقائق الطبيعية التي تقوم الحيلة علي مخالفتها قد
تكون مادية وقد تكون فكرية وهذه إما أن تكون تاريخية أو حقائق علمية أو حقائق
فلسفية.
والحيلة التي تقوم علي مخالفة الحقائق التاريخية هي تلك
التي تقرر أنه قد حدث ما لم يحدث في الحقيقة والواقع أو تقرر عدم حدوث ما قد حدث
فعلا ومثال ذلك اعتبار الجنون المتقطع أي الجنون الذي تتخلله فترات إفاقة جنونا
مستمرا مع ما يترتب علي ذلك من ترتيب البطلان علي التصرفات التي تقع من المجنون
وهو في فترة الإفاقة: فهنا ينكر القانون حالة الإفاقة ويعتبرها كأن لم تكن. وكذلك
افتراض تحقق الشرط إذا كان المدين بالالتزام الشرطي هو الذي منع تحققه: فهذه
القاعدة تتضمن مخالفة لحقيقة تاريخية هي عدم تحقق الشرط.
أما مخالفة الحقائق المستمدة من علم الطبيعة فمنها
القاعدة التي تخالف التقسيم الطبيعي للأشياء إلي
منقولات وعقارات فتفترض أن بعض المنقولات عقارات إذا كانت مرصودة علي خدمة
عقار أو استغلاله ويطلق علي المنقول في هذه الحالة اسم "العقار بالتخصيص. كما
يفترض أن بعض العقارات منقولات مادام مآلها القريب إلي الانفصال عن أصل ثابت
والتحول بذلك إلي منقولات ويطلق علي العقار في هذه الحالة "المنقول بحسب
المآل. ومنها كذلك في القانون الروماني افتراض بقاء المورث علي قيد الحياة حتي
قبول الوارث للتركة حتي لا تترك شاغرة بلا مالك خلال الفترة من وفاة المورث إلي
حيث قبول الوارث لها. فهذا الافتراض يقوم علي أساس مخالفة الحقائق العلمية الثابتة
التي تقرر أن شخصية الإنسان تبدأ بالميلاد وتنتهي بالوفاة.
أما مخالفة الحقائق الفلسفية فقد تكون مخالفة لمبدأ
السببية أو مبدأ الذاتية أو مبدأ عدم التناقض.
فأخذ المشرع بكفرة الأثر الرجعي للقسمة والتي تقرر أنه
يعتبر المتقاسم مالكا للحصة التي آلت إليه منذ أن تملك في الشيوع وأنه لم يملك
غيرها شيئا في بقية الحصص (مادة 843 مدني مصري) ينطوي علي مخالفة لمبدأ فلسفي وهو
مبدأ السببية لأن الأثر الرجعي يعني أن القسمة لم تصنع شيئا ومن ثم لم يكن هناك
مبرر لوجودها كما أنها تنطوي أيضا علي مخالفة للحقائق التاريخية التي تؤكد وجود
حالة الشيوع قبل القسمة.
وعندما يقرر المشرع نظام الوفاء مع الحلول ومؤداه أن
الوفاء بالدين لا يؤدي إلي انقضائه بل يظل الدين قائما بعد الوفاء به ويحل فيه
الموفي محل الدائن إذا توافرت شروط معينة (مادة 326 ، 331 مدني مصري) فإنه يصنع
نظاما مخالفا لطبيعة الأشياء لأن الوفاء بحسب طبيعته ووفقا لمبدأ الذاتية يؤدي إلي
انقضاء الالتزام ولذلك فإن نظام الوفاء مع الحلول ينطوي علي حيلة قانونية قصد بها
حماية مصلحة الموفي في استرداد ما وفاه.
كذلك فإن بعض الأحمام التي تقرر أثرا رجعيا لوقائع معينة
هي أحكام مخالفة لمبدأ السببية الذي يقضي بأن الشيء لا يوجد قبل وجود سببه:
ومخالفة أيضا لمبدأ عدم التناقض الذي لا يقبل القول بوجود الشيء وعدم وجوده في آن
واحد. فالقاعدة التي تقرر مثلا أنه إذا تحقق الشرط استند أثره إلي الوقت الذي نشأ
فيه الالتزام (مادة 270 مدني مصري) تخالف مبدأ السببية الذي لا يجعل للشرط أثرا
إلا من وقت حدوثه وتخالف كذلك مبدأ عدم التناقض الذي لا يجيز أن يعتبر التصرف في
مجموعه بسيطا ومعلقا علي شرط في نفس الوقت.
الاتجاه الثاني: الافتراض يقوم علي مخالفة الحقائق
القانونية:
يقرر أنصار هذا الاتجاه أن الحيلة أو الافتراض القانوني
يقوم علي مخالفة الحقائق القانونية: فالقاعدة المقررة للأثر الرجعي للقسمة قاعدة
مجازية (افتراض) لأنها تتضمن حقيقة قانونية وهي أن حقوق الشركاء المفرزة لا تنشأ
إلا من القسمة.
الاتجاه الثالث: التوفيق بين الاتجاهين السابقين:
وقد حاول البعض التوفيق بين الرأيين السابقين بقوله إن
الافتراض القانوني إنما يتحقق عندما تطبق قاعدة قانونية مرتبطة بحالة مادية معينة
علي حالة أخري مع تجاهل الخصائص المميزة لهذه الأخيرة.
وعلي الرغم من أن أنصار هذا الرأي يميلون إلي الأخذ
بالاتجاه الثاني إلا أنهم لا يخفون ما ينطوي عليه الاتجاه الأول من صواب: فإذا
كانت مخالفة الحقيقة القانونية لا تعتبر مجازا أي افتراضا إلا إذا كانت تلك الحقيق
مرتبطة بحقيقة مادية لا توجد في الحالة الجديدة التي امتد إليها حكم القاعدة فإن
هذا العنصر الجديد وهو تجاهل اختلاف الحالة المادية (مخالفة الحقيقة الطبيعية) هو
الذي يجعل من القاعدة افتراضا قانونيا.
الفرع الثاني: التمييز بين الحيلة القانونية وغيرها من
الأفكار المتشابهة
هناك بعض الأفكار القانونية التي تماثل من بعض جوانبها
الحيلة أو الافتراض القانوني ومن ثم فإنه يتعين علينا أن نميز بين الحيلة وبين هذه
الأفكار حتي يتسني لنا تحديد معناها علي وجه الدقة.
أولا: التمييز بين الحيلة القانونية والتحايل أو الغش
نحو القانون:
يقصد بالغش نحو القانون استخدام الخداع والحيلة من قبل
الأفراد بهدف الوصول إلي تطبيق القاعدة القانونية أو إلي استبعاد تطبيقها. وعلي
ذلك فإن الغش نحو القانون والحيلة القانونية يتفقان في أن كلا منهما ينطوي علي
مخالفة للحقيقة. علي أن هذا التشابه يجب ألا يؤدي إلي الخلط بينهما لأن الفارق
بينهما جوهري ويتمثل في أن الذي يخالف الحقيقة في الافتراض أو الحيلة القانونية هو
وضاع القاعدة القانونية أو من يفسرها بحيث تكون المخالفة جزءا من القاعدة نفسها
أما في نطاق التحايل علي القانون فإن المخالفة تقع ممن يوجه إليهم الخطاب في
القاعدة أي من الأفراد الذين تنطبق عليهم القاعدة القانونية.
فالافتراض وصف يلحق بالقاعدة القانونية ويتصل ببنائها
أما الغش نحو القانون فإنه لا يتصل بصياغة القاعدة وإنما يتضمن وسائل يتبعها
الأفراد لمخالفة الحقيقة.
ثانيا: التمييز بين الحيلة القانونية والقرائن
القانونية:
القرينة القانونية هي وسيلة من وسائل الصياغة القانونية
التي يحاول القانون عن طريقها قطع الشك باليقين بأن يجعل من الشيء المحتمل شيئا
صحيحا بطريقة يقينية. وتعرف بأنها: "أخذ أمر مشكوك فيه ولكنه محتمل تبعا
للغالب والمألوف في العمل علي أنه أمر مؤكد أي تحويل الشك في شأنه إلي يقين وإخراج
القاعدة القانونية علي هذا الأساس".
والقرينة القانونية بهذا المعني لا غني عنها في أي نظام
قانوني لأن القانون لا يستطيع أن ينظم المجتمع تنظيما قهريا إلا إذا قطع الشك
باليقين.
وقد تكون القرينة القانونية قاطعة بمعني أنها لا تقبل
إثبات العكس وبالتالي فإنها تعفي من تقررت لمصلحته عن أية طريقة أخري من طرق
الإثبات وقد تكون بسيطة أي يجوز نقضها بالدليل العكسي (مادة 99 من قانون الإثبات
المصري الجديد).
ومن ناحية أخري فإن القرائن إما أن تكون قانونية أي
يقررها القانون علي النحو الذي أسلفناه وإما أن تكون قضائية أي يستنبطها القاضي من
وقائع الدعوي وهذا النوع الأخير من القرائن غير قابل للحصر لأن القاضي يقررها بصدد
كل نزاع من المنازعات المعروضة عليه علي حده.
وقد تتحول القرينة القضائية إلي قرينة قانونية إذا
تواترت المحاكم علي الأخذ بها في المنازعات المتماثلة.
والذي يهمنا في هذا المجال هو القرائن القانونية باعتبارها
طريقة معنوية من طرق الصياغة القانونية لأنها من هذه الزاوية تتشابه مع الحيل
القانونية فكلاهما يلجأ إليه المشرع في مرحلة تكوين القاعدة القانونية بقصد تيسير
الوصول إلي غايات عملية معينة وكلاهما أيضا يقوم علي أساس تصور ذهني تحكمي للواقع.
ومع ذلك فإن الفارق بين القرائن القانونية والحيل
الشرعية يظهر بوضوح في أن القرائن القانونية تطابق الحقيقة في معظم الحالات ولا
تخالفها إلا في حالات استثنائية وهي حالات يضحي بها القانون في سبيل وضع قواعد
قانونية عامة. وبعبارة أخري فإن القرائن تقوم علي الاحتمالات الغالبة والراجحة في
العمل بحيث تأتي متفقة مع الاتجاه العادي والطبيعي للأمور. أما الحيلة القانونية
فإنها دائما أمر مخالف للحقيقة لأنها تقوم علي أساس إنكار الواقع أو تشويه وتجعل
من الشيء غير الصحيح شيئا صحيحا.
ثالثا: التمييز بين الحيل القانونية والصورية:
يقصد بالصورية اصطناع مظهر كاذب عند إجراء تصرف قانوني
بغرض إخفاء الحقيقة عن الغير. وقد يتبادر إلي الذهن أن الصورية بهذا المعني تختلط
مع الحيلة القانونية إذ أن كلاهما يعمل علي تغيير الحقيقة أو تشويهها إلا أن
الفارق بينهما واضح: فالصورية يلجأ إليها المتعاقدان لإخفاء حقيقة التصرف القانوني
أما الافتراض أو الحيلة القانونية فإنها كما أسلفنا وسيلة معنوية من وسائل الصياغة
القانونية ومن ثم فإن الذي يلجأ إليها المشرع نفسه.
ومن ناحية أخري فإن الغرض من الصورية هو خديعة الغير
باصطناع مظهر كاذب يخفي وراءه تصرفا حقيقيا آخر ومثال ذلك البيع الذي يتخذ صورة
الهبة بقصد منع الشفيع من أخذ العقار المبيع بالشفعة. أما الافتراض القانوني فهو
علي العكس من ذلك إذ لا يهدف المشرع ورائه بطبيعة الحال إلي خديعة أحد وإنما يلجأ
إليه بهدف تطوير القانون.
رابعا: التمييز بين الحيل القانونية والتدليس:
يقصد بالتدليس إيقاع أحد المتعاقدين بطرق احتيالية في
غلط يدفعه إلي إبرام العقد. ويتبين من ذلك أن التدليس يتطلب توافر عناصر معينة
لتحققه: إذ يلزم أولا أن تكون هناك طرق احتيالية قد استعملت بقصد التضليل وثانيا
أن يكون استعمال هذه الطرق قد وقع من أحد المتعاقدين في مواجهة الآخر أو علي الأقل
كان عالما به أو كان من السهل أن يعلم به وثالثا أن يكون هذا التضليل دافعا إلي
التعاقد (المادتان 125 ، 126 من القانون المدني المصري).
وكما هو واضح فإن التدليس يتفق مع الحيلة القانونية في
أن كلا منهما يتضمن مخالفة الحقيقة. علي أن هذا التشابه ينبغي ألا يؤدي إلي الخلط
بينهما إذ أنهما يختلفان سواء من حيث المصدر أو من حيث الأثر.
فالتدليس يتمثل كما قلنا في استعمال الطرق الاحتيالية من
قبل أحد المتعاقدين في مواجهة المتعاقد الآخر أو علي الأقل علمه حقيقة أو حكما
بوجوده. أما الافتراض القانوني فإن الذي يلجأ إليه هو المشرع نفسه الذي يضع
القاعدة القانونية ولذلك قلنا إن الافتراض وصف يلحق القاعدة القانونية ويتصل
ببنائها.
ومن حيث الأثر فإن التدليس متي تحقق يؤدي إلي بطلان
العقد وزوال ما ترتب عليه من آثار. أما الافتراض القانوني فإنه لا يؤدي إلي بطلان
القاعدة القانونية أو وقف تطبيقها طالما توافرت شروط هذا التطبيق.
الفرع الثالث: أسباب استعمال الحيل القانونية
كانت الحيلة وسيلة شائعة في الشرائع القديمة فعلبت دورا
خطيرا في تاريخ التطور القانوني عند أكثر الأمم المتقدمة وأحدثت في شرائعها ونظمها
أثرا واسع المدي ولا يزال للحيلة بعض الأهمية في التشريعات المعاصرة: فقد لجأ
الرومان إلي الحيلة لتطوير قانونهم والتهرب من شكلياته ورسمياته كما استعملت كذلك
في إنجلترا بقصد توسيع الاختصاص والتخلص مما يوجد في القانون الإنجليزي من أحكام
جامدة ومعقدة. ولجأ الفقهاء المسلمون إلي هذه الطريقة أيضا وكانوا يطلقونه علي
الافتراض اصطلاح "الحيلة الشرعية". ولا زال المشرع في العصر الحديث يلجأ
إلي الافتراض في كثير من المسائل بقصد تسهيل المعاملات وإيجاد الأحكام القانونية.
ويمكن إجمال الأسباب التي دعت إلي استعمال الحيلة فيما
يلي:
أولا: الأصل الديني للقوانين:
نشأت الشرائع القديمة كما سبق أن رأينا في أحضان الديانة
فكان للأديان قوة في النفوس وثباتا علي الأذهان جعلا الناس شديدي التمسك بالتقاليد
والنصوص القانونية ويحترمونها احتراما يصل إلي درجة التقديس وقد ترتب علي ذلك أن
اتسمت شرائع الأمم القديمة بطابع الجمود وعدم القابلية للتعديل والتغيير وذلك رغما
عما قد يظهر من شدة الحاجة إلي إصلاحها أو تعديلها: فإذا تغيرت الظروف الاجتماعية
والاقتصادية المحيطة بالمجتمع وبات من الضروري تعديل نظمه القانونية حتي تتمشي مع
هذا التطور فإنه لا يلجأ إلي إلغاء القوانين القديمة بل يبقي عليها ويحاول تفسيرها
بحيث يجعلها صالحة لحكم التطورات الجديدة أو يصدر قانونا يفي بالغرض المطلوب. وقد
دفع ذلك المختصين بأمور القضاء وبتفسير القانون إلي الاحتيال علي نصوصه ونظمه
ابتغاء تطبيقها دون تغيير في صيغتها علي حالات لم تكن تسري عليها وتحميلها أحكاما
جديدة لم يتسع لها منطوقها ومرماها حتي يوفقوا بذلك بين كراهة تغيير النصوص أو
التقاليد وبين ضرورة تعديل نظمها ومبادئها لتتلاءم مع التطورات الاجتماعية
والاقتصادية والفكرية الجديدة.
ثانيا: التطور التدريجي للظروف الاجتماعية والاقتصادية:
فالتطورات التي تطرأ علي المجتمع في ظروفه المختلفة لا
تأتي هكذا فجأة أو بين عشية وضحاها وإنما هي تسير دائما بصورة تدريجية غير محسوسة.
وقد تمضي فترة طويلة لا يتنبه فيها المشرع لتغير الظروف المحيطة بالمجتمع فيعجز
القانون عن مسايرة هذه التطورات والتفاعل معها أو الاستجابة لها مما يدفع القائمين
علي أمر تطبيق القانون أو تفسيره إلي التحايل علي مبادئه وقواعده وذلك بتغيير
المعطيات اللازمة التي تقوم عليها النصوص فيتغير حكم القانون دون أن يتغير نصه.
وحينما تتضح معالم تلك التطورات الجديدة في ظروف المجتمع المختلفة ويظهر تعارضها
مع القواعد القانونية القائمة يكون المجتمع قد تعود علي صور التحايل التي أوجدتها
الضرورات العملية فيعمل المشرع من جانبه علي تبني هذه القواعد الجديدة إن كانت
نافعة للمجتمع أو يعمل علي محاربتها أن وجد فيها ضررا.
ثالثا: الطبيعة المحافظة لبعض الشعوب:
بالإضافة إلي ما سبق فإن هناك بعض الشعوب مثل الشعب
الروماني والشعب الإنجليزي تميل بطبيعتها إلي السير علي ما هو مألوف وتنفر بالتالي
من التجديد والتغيير وقد انعكست هذه الطبيعة المحافظة لتلك الشعوب علي نظمها
القانونية فنجدها تقدس شرائعها بالرغم من ظهور شدتها أو قصورها ولذلك فإن تأثير الحيلة
في هذه الشرائع وبصفة خاصة في القانون الروماني القديم كان أوسع نطاقا من تأثير
الوسائل الأخري لأنها الأسلوب الوحيد الذي يلائم النفسية الفطرية ويتفق مع عقلية
الإنسان في بدء عهده بالمدينة ومع شعوره نحو ديانته وتقاليده.
رابعا: الطبيعة الخاصة لبعض القوانين:
فبعض القوانين القديمة جاءت ضيقة النطاق مقيدة
بالإجراءات والرسميات الشديدة فطرية في مبادئها: فالقانون الروماني مثلا لم يكن
يطبق إلا علي الرومان دون الأجانب وكان التصرف القانوني لا ينتج أثره إلا إذا
روعيت بشأنه الإجراءات التي نص عليها القانون دون تعديل أو تحريف وأية هفوة شكلية
كانت تعرض المخطئ لفقد حقه وكان يعطي للدائن الحق في أن يقتل مدينه إذا لم يسدد
دينه كما أجاز للمجني عليه في بعض الحالات أن يقتص من خصمه بيده.
وعندما تطورت المجتمع وأخذت بأسباب المدنية أصبحت مثل
هذه القوانين عاجزة عن متابعة ذلك التطور مما دفع القائمين علي تطبيقها وتفسيرها
إلي التحايل علي نصوصها لكي تلائم الحالة الاجتماعية الجديدة.
المطلب الثاني: دور الحيلة في تطوير الشرائع القانونية
أسلفنا أن الحيل الشرعية أو الافتراضات القانونية كانت
أول وسيلة التجأ إليها رجال القضاء والفقه لإصلاح النظم القانونية وأنها قد
استخدمت علي نطاق واسع ولعبت دورا خطيرا في تاريخ التطور القانوني عند أكثر الأمم
المتقدمة فأحدثت في شرائعها ونظمها أثرا واسع المدي ولا يزال للحيلة بعض الأهمية
في التشريعات المعاصرة. ونبين فيما يلي دور الحيلة في تطوير القانون الروماني والشريعة
الإسلامية والقانون الإنجليزي باعتبارهم من الشرائع المتطور التي تقوم عليها معظم
قوانين العالم المتمدن في الوقت الحاضر ثم نبين بعد ذلك أثر الحيلة في القوانين
الحديثة.
الفرع الأول: دور الحيلة الشرعية في القانون الروماني
كان تأثير الحيلة في القانون الروماني القديم أوسع نطاقا
من تأثير الوسائل الأخري كما أنه أوضح وأعمق منه في أية شريعة أخري. ذلك لأن
الأحكام القانونية التي وضعت لأمة جافية الطبع وما زالت في طور التوحش ما كان يمكن
أن تلائم حال روما التي تحضرت وانصقلت شمائلها. ومن أجل هذا أصبح تخفيفها أمرا لازما.
علي أن التعديل لم يحصل بتنقيح كلي لقانون الألواح الإثني عشر بل إن هذا القانون
الذي كان الناس يحيطونه باحترام يكاد يبلغ درجة العبادة استمر يمثل من الوجهة
النظرية علي الأقل الأساس الأصيل للقانون المدني. ولكن في العمل كانت أحكامه تهمل
وتستبعد بوسائل التأويل التي كان الفقهاء يذهبون فيه أحيانا إلي أغوار من العقليات
بعيدة وكان الحكام الشرعيون (البريتور) هم أكثر من استعمل الحيل الشرعية لبلوغ هذه
الغاية وذلك بما لهم من سلطة في تطبيق القانون تفسيره. وكان يطق علي الحيل التي
أوجدها هؤلاء الحكام: "الحيل البريتورية. كما أطلق علي الحيل التي استعملها
الفقهاء الرومان "الحيل الشرعية". بل أن المشرع الروماني نفسه قد لجأ
إلي الحيلة لتبرير بعض النظم القانونية التي تقوم علي تصور ذهني مخالف للواقع.
وإذا أردنا أن نحصر دور الحيلة في تطوير نظم القانون
الروماني فإننا نجد أن هذه الوسيلة قد استعملت كأداة لاستحداث نظم قانونية جديدة
كما استعملت أيضا كوسيلة لتبرير بعض النظم القائمة وتخفيف حدة بعض النظم الأخري أو
الحد من آثارها المفرطة في القسمة والشدة.
أولا: دور الحيلة في استحداث نظم قانونية جديدة:
فقد تمكن الرومان عن طريق استعمال الحيلة أو الافتراض
القانونية من استحداث بعض النظم القانونية الجديدة التي دعت إليها حاجة التطورات
الاجتماعية والاقتصادية التي طرأت علي المجتمع الروماني. ومن أمثلة هذه النظم:
1- نظم الملكية البريتورية:
كانت الملكية الرومانية أي الملكية التي يعترف بها
القانون الروماني وفقا علي الرومان أنفسهم دون غيرهم ولا تنصب إلا علي الأموال
النفيسة ولا تنتقل إلا بوسائل قانونية محددة هي: الإشهاد والدعوي الصورية.
فإذا تصرف أحد الرومان في مال من الأموال النفسية دون
اتباع الوسائل المقررة في القانون المدني كأن تصرف مثلا في عقار إيطالي ولم يقم
الطرفان بإجراءات الإشهاد أو الدعوي الصورية بل اكتفيا بالتسليم فإن الملكية لا
تنتقل من المتصرف إلي المتصرف إليه لأن القانون الروماني القديم لا يعترف بهذا
التصرف ومن ثم فإن المتصرف يبقي هو المالك للشيء ولا يعتبر المكتسب مالكا في نظر
القانون الروماني إلا بعد مضي المدة اللازمة لتملك الشيء المبيع بالتقادم المكسب
وهي سنتان بالنسبة للعقارات وسنة واحدة بالنسبة للمنقولات. وينبني علي ذلك أنه إذا
فقد المكتسب حيازته علي الشيء قبل مضي هذه المدة فإنه لا يستطيع استرداده ثانية
لأنه لا توجد في أحكام القانون الروماني وسيلة يستطيع بمقتضاها استرداد هذا الشيء
كما لا يستطيع رفع دعوي استرداد الملكية لأنه ليس مالكا في نظر القانون الروماني.
وكان من شأن هذه الأحكام أن تقف عائقا في وجه ازدهار
التجارة وما تتطلبه من سرعة في المعاملات ولذلك نجد أن البريتور قد تدخل لحماية
المكتسب في مثل هذه الحالة فمنحه دعوي تسمي بالدعوي "البوبليسيانية"
لتمكينه من استرداد الشيء الذي انتقل إليه بالتسليم إذا فقد حيازته قبل مضي المدة
اللازمة للتملك بالتقادم.
وهذه الدعوي هي في الواقع دعوي عينية مدنية مبنية علي
تحايل أو افتراض مؤداه: أن المدعي (وهو المتصرف إليه الذي فقد حيازته علي الشيء
المسلم إليه) قد أتم مدة وضع اليد المكسبة للملكية وذلك علي الرغم من أن هذه المدة
لم تنقض في الحقيقة والواقع وبذلك يصبح المتصرف إليه (أي المكتسب) في حكم من تملك
المال بالتقادم وهو من الطرق المنصوص عليها في القانون المدني القديم لاكتساب
الملكية الرومانية.
وقد نتج عن هذا التطور أن أصبح التسليم طريقا لاكتساب
الملكية البريتورية علي الأموال النفيسة بعد أن كان طريقا مقصورا علي نقل ملكية
الأموال غير النفسية.
2- النيابة في التعاقد:
النيابة في التعاقد هي حلول إرادة شخص (النائب) محل إرادة
شخص آخر (الأصيل) في إبرام تصرف قانوني تنصرف آثاره إلي ذمة الأصيل لا إلي ذمة
النائب.
ولم يكن القانون الروماني القديم يأخذ بمبدأ النيابة في
التعاقد. فلم يكن من الجائز أن يبرم شخص عقدا لينتج آثاره في ذمة الغير. وإذا فرض
أن عهد شخص إلي آخر بإجراء تصرف قانوني معين فإن الحق أو الدين الناشئ عن هذا
التصرف يرجع إلي الوكيل ولا ينصرف إلي ذمة الأصيل مباشرة: فالوكيل هو الذي يكتسب
الحق ويلتزم بالدين دون الموكل وهو الذي يطالب بالحق لنفسه ويقاضيه الدائن لسداد
دينه وبعد ذلك ينقل إلي الموكل ما اكتسبه أو قبضه من الحقوق ويرجع علي الموكل بما
دفعه من الديون.
وكانت هذه القاعدة تتمشي مع الظروف الاجتماعية
والاقتصادية للشعب الروماني القديم حيث كانت التصرفات القانونية تتطلب القيام
بإجراءات شكلية والتلفظ بألفاظ ورموز معينة ، مما كان يستلزم حضور كل من
المتعاقدين وانصراف آثار العقد إلي ذمة من باشر هذه الإجراءات وحيث أن الالتزام
يتميز بأنه علاقة شخصية فلا يجوز أن يوجد إلا بين الأشخاص الذين عملوا علي إنشائه.
إلا أنه بعد أن تغيرت الظروف الاقتصادية وتقدمت التجارة
ظهرت مساوئ هذه القاعدة ومدي ما تسبيه من عرقلة للمعاملات. ولهذا فقد تدخل البريتور
وقرر جواز النيابة في بعض الأحوال خروجا علي المبدأ العام الذي يقضي بعدم جوازها
وقد جاء ذلك علي نحو تدريجي.
فقد تدخل البريتور في بادئ الأمر بوسائل من شأنها إلزام
رب الأسرة بالعقود التي يعقدها تابعوه (الأبناء أو العبيد) لحسابه طالما أنه قد
أظهر إرادته صراحة أو ضمنا في تحمل نتائج التصرفات التي أجروها. وبذلك هدم
البريتور صرح القاعدة القديمة التي تقضي بأن الابن والعبد ليسا سوي أداة في يد رب
الأسرة يستطيع بواسطتها أن يكتسب الحقوق دون أن يتحمل بسببها بالواجبات.
والحكمة من تدخل البريتور في هذه الحالة واضحة: ذلك أن
الغير كانوا يحجمون عن التعاقد مع التابعين لرب الأسرة (الأبناء والعبيد) لأن معظم
العقود الدائرة في التعامل هي عقود ملزمة للطرفين أي تجعل الشخص دائنا ومدينا في
نفس الوقت ولا يقبل الغير أن يصبح رب الأسرة دائنا دون أن يلتزم بآثار العقد من
جهة أخري.
أما عن الوسائل التي استعملها البريتور لتحقيق هذا الغرض
فتتمثل في طائفة من الدعاوي التي أوجدها بنفسه وتسمي: دعاوي "الصفة
المضافة" والتي تمكن الغير من الرجوع علي رب الأسرة علي أساس العقد الذي
باشره الابن أو العبد.
ودور الحيلة في هذه الدعاوي يتمثل في أنها كانت تؤسس علي
افتراض مؤداه أن العبد يتمتع بالحرية أو أن الابن يتمتع بالأهلية القانونية ومن ثم
فإن عريضة الدعوي كانت تحرر باسمه ثم يطلب البريتور من القاضي إصدار الحكم إذا
ثبتت صحة ادعاء المدعي ضد رب الأسرة وذلك بافتراض أنه هو الذي أجري التصرف بنفسه.
وفي وقت لاحق ولكنه غير معروف علي وجه التحديد توسع
البريتور في الأخذ بفكرة النيابة فأجازها في بعض الحالات التي يكون فيها النائب
شخصا مستقلا بحقوقه أو تابعا لشخص آخر غير الأصيل وذلك بالقياس علي نيابة التابعين
لغيرهم عن رب الأسرة فمنح دعوي التجارة البرية ودعوي التجارة البحرية ضد الموكل
الذي يكون نائبه شخصا من الغير وليس من المولي عليهم أو التابعين وبذلك توصل
البريتور إلي تقرير النيابة الكاملة في مجال المعاملات التجارية. أما بالنسبة
للمعاملات المدنية أي الخاصة بأعمال غير تجارية فقد منح البريتور للغير دعوي علي
غرار دعوي التجارة البرية ومع ذلك فقد استمرت النيابة في مثل هذه الأعمال نيابة
ناقصة لأن للغير فيها حق الرجوع علي النائب أو علي الأصيل بحسب اختياره.
3- التوسع في استعمال الإشهاد:
كان البيع بالإشهاد طريقة رسمية من طرق اكتساب الملكية
الرومانية علي الأموال النفيسة في القانون الروماني القديم.
وقد تمكن الرومان عن طريق استخدام الحيلة أو الافتراض
القانوني من مد نطاق هذه الوسيلة الخاصة بالبيع لكي تشمل تصرفات وعقود أخري جديدة
مثل الوصية والهبة والدوطة والمقايضة وعارية الاستعمال والرهن الحيازي.
فالوصية مثلا كان يشترط لصحتها في الأصل صدور قرار
تشريعي من مجلس الشعب بعد موافقة رجال الدين نظرا لما تنطوي عليه من مساس بأموال
الأسرة وبعبادتها المنزلية ولم يكن من السهل الحصول علي موافقة مجلس الشعب ورجال
الدين فلجأ الرومان إلي التحايل علي هذه الإجراءات وذلك بأن ينقل الموصي ملكية
المال الموصي به إلي مشتر صوري بطريق الإشهاد ويتعهد المشتري الصوري بتسليم المال
الموصي به إلي الموصي إليه بعد وفاة الموصي.
وقد ترتب علي استخدام الإشهاد في عقود كثيرة لتحقيق
أغراض شتي أن أصبح الإشهاد في العصر العلمي عملا مجردا عن سببه أي ينقل الملكية
بصرف النظر عن السبب القانوني الذي تم الإشهاد تحقيقا له.
4- التوسع في استعمال الدعوي الصورية:
كانت الدعوي الصورية تستعمل في الأصل لنقل حق الملكية
الرومانية علي الأشياء النفسية إلا أن الرومان قد تمكنوا عن طريق الحيلة أو
الافتراض القانوني من استعمال هذه الوسيلة أيضا لتحقيق تصرفات قانونية أخري مثل
العتق والتبني.
ففي دعوي الحرية الصورية مثلا يدعي وكيل العبد في الدعوي
بأنه حر ويلتزم السيد الصمت ولا يعمل ما من شأنه مناقضة المدعي ومعارضته فيعتبر
سكوته بمثابة إقرار أمام القاضي ويصدر القاضي حكمة بصحة ادعاء المدعي وبذلك يترتب
الأثر المقصود من الدعوي وهو العتق أي منح الحرية للعبد.
ثانيا: دور الحيلة في تخفيف آثار بعض النظم:
كان من نتيجة التطورات التي طرأت علي المجتمع الروماني
أن أصبحت بعض النظم القانونية غير ملائمة لحالة المجتمع وبالتالي كان يجب إلغاؤها
أو تعديلها ولكن لما كان الشعب الروماني من أكثر الشعوب محافظة علي تقاليده فقد
لجأ إلي الحيلة بغية تخفيف آثار هذه النظم والحد من شدتها أو قصورها وجعلها
بالتالي ملائمة للتطورات التي أصابت المجتمع. ومن أمثلة هذه النظم نذكر:
1- تطبيق القانون الروماني علي الأجانب:
كانت القاعدة في القانون الروماني القديم أن الشخصية
القانونية يتمتع بها الوطنيون دون الأجانب وقد نتج عن ذلك أن كان الأجنبي في روما
مثله في ذلك مثل الرقيق لا يتمتع بأية حماية قانونية بل يعتبر مالا مباحا يحق لأي
وطني أن يستولي عليه وفضلا عن ذلك فليس له حق الزواج أو حق التعامل مع الرومان
طبقا لأحكام القانون الروماني لأن هذا القانون كان يعتبر امتيازا يتمتع به
الوطنيون الرومانيون دون سواهم.
وعندما اتسعت روما وتحولت من مجتمع زراعي إلي مجتمع
تجاري تكثر فيه المعاملات والمبادلات التجارية بات من الضروري توفير حماية خاصة
للأجانب في روما وهنا تدخل البريتور للتحايل علي القواعد السابقة فكان يفترض في
البرنامج الكتابي الذي يحيل به القضية إلي المحكمة للفصل فيها أن المدعي الأجنبي
روماني الجنسية وبذلك يمكنه المطالبة بحقه في نزاع مدني أو في دعوي جنائية.
2- نقل الملكية بقرار قضائي:
من المبادئ الثابتة في القانون الروماني وفي الشرائع
الحديثة أن الأحكام القضائية مقررة للحقوق لا منشئة لها ومعني ذلك أن وظيفة السلطة
القضائية تنحصر في بيان الحقوق السابق وجودها في إعلانها بالحكم لا في إنشائها
لشخص أو نقلها من شخص إلي آخر. ولكن الرومان توصلوا باستعمال الحيلة أو الافتراض
القانوني إلي تقرير استثناءات ثلاثة علي هذه القاعدة هي: حالة القسمة القضائية
وحالة المنزل الآيل للسقوط علي الجار وحالة المتاع الذي أصاب غير مالكه بأذي.
أ- حالة القسمة القضائية:
وتشمل هذه الحالة دعوي القسمة بين الورثة أو الشركاء
ودعوي فصل الحدود بين الجيران يصعب الاتفاق بين الورثة أو الشركاء أو الجيران علي
فصل الأنصباء أو الحدود بينهم وديا:
ففي دعوي القسمة بين الورثة أو الشركاء يكون للقاضي سلطة
الحكم للواحد منهم بما يملكه الآخر أو بجزء منه بقصد إنهاء المشاع بينهم وفي هذه
الحالة فإن الملكية تنتقل من بعض الشركاء إلي البعض الآخر بعد أن كان لكل شريك حق
الملكية مع الآخر في كل ذرة من المال محل الشيوع.
وفي حالة فصل الحدود بين الجيران إذا لم يجد القاضي حدا
مناسبا بين طرفي الملكي فله أن يحكم بنقل ملكية جزء من مال الجار إلي جاره مع
التعويض بقصد إنشاء حد ظاهر منتظم أو تثبيت حد طبيعي واقع في أحد الملكين.
ب- حالة المنزل الآيل للسقوط علي الجار:
فإذا كان لشخص منزل يهدد الجار بالسقوط ورفض مالكه أن
يقدم ضامنا لتعويض الجار عما قد يحدث له من الضرر عند سقوط المنزل أصدر الحاكم
القضائي (البريتور) أمرا في صالح الجار المشتكي بدخول المنزل الآيل للسقوط وإجراء
الإصلاحات اللازمة علي نفقة المالك. فإن أصر المالك علي امتناعه رغم ذلك فإن
البريتور يصدر قرارا ثانيا بمنح الملكية البريتورية للجار علي المنزل وجعله في
حالة من اكتسب الملكية بمضي المدة.
ج- حالة المتاع الذي أصاب غير مالكه بضرر:
في هذه الحالة أيضا نجد أن الملكية تنتقل بأمر الحاكم
القضائي إلي المدعي علي رقيق أو حيوان أصابه بالأذي ولم يحضر صاحبه في دعوي الضرر
ليدفع عن نفسه الدعوي وذلك بأن يسمح الحاكم بتسليم المتاع المتسبب في الضرر إلي
المدعي ويجعله في مركز المكتسب للملكية بمضي المدة القانونية علي وضع يده.
3- تعديل قواعد الميراث: كان القانون الروماني القديم لا
يقضي بالميراث للابن أو للزوجة إلا إذا كان الابن خاضعا لسلطة أبيه والزوجة خاضعة
لسيادة زوجها عند وفاته ومعني ذلك أن الابن المحرر من سلطة أبيه لا نصيب له في
التركة وأن الزوجة التي تزوجت بغير سيادة لا ترث هي الأخري في تركة زوجها المتوفي.
غير أن البريتور كان يفترض خضوع الابن المحرر لسلطة أبيه والزوجة لسيادة زوجها عند
وفاته ليمكن كل منهما من الحصول علي نصيبه في التركة وذلك بفضل الإجراء الخاص الذي
كان يتخذه مستندا إلي سلطته الإدارية والمعروف بالتمكين من الحيازة فنشأ بذلك نظام
الإرث البريتوري بجانب الإرث الشرعي الذي كان يقوم علي أساس القرابة المدنية
المبنية علي الخضوع لسلطة رب الأسرة لا علي القرابة الطبيعية القائمة علي صلة
الدم.
ثالثا: دور الحيلة في تبرير بعض النظم:
لم يقتصر دور الحيلة في القانون الروماني علي خلق أو
إنشاء بعض النظم القانونية التي دعت إليها حاجة التطورات الاجتماعية والاقتصادية
أو تخفيف آثار بعض النظم القانونية القائمة علي نحو ما سبق أن رأينا وإنما
استعملها الرومان كذلك كوسيلة لتبرير بعض النظم القانونية التي يصعب فهمها أو
تفسيرها إلا علي أنها مجرد تصور ذهني مخالف للواقع ومن الأمثلة علي ذلك ما يلي:
1- الأشخاص المعنوية:
الأصل أن كلمة شخص لا تطلق إلا علي أفراد النوع الإنساني
الذين لهم أهلية اكتساب الحقوق والالتزام بالواجبات وهم كائنات عاقلة لها حياة
مادية ووجود مجسم إلا أن القانون الروماني أوجد بجانب هؤلاء أشخاصا آخرين لا وجود
لهم في الذهن بأن جعل لهم كيانا قانونيا واعتبرهم كالإنسان أهلا لاكتساب الحق
وللالتزام بالواجب ولذلك سميت بالأشخاص المعنوية أو الاعتبارية أو القانونية وكان
يطلق عليها باللاتينية "جماعات أو هيئات".
2- افتراض أن الجنين قد ولد قبل وفاة مورثه:
الأصل أن الشخصية القانونية أي الصلاحية لاكتساب الحقوق
والتحمل بالالتزامات تبدأ بولادة الشخص وتنتهي بوفاة ومعني ذلك أن الجنين في بطن
أمه لا يتمتع بالشخصية القانونية وبالتالي لا يكون له الحق في الميراث إذا مات
مورثه قبل ولادته حيا ولكن الرومان قد خرجوا علي هذه القاعدة وقرروا أن الشخصية
القانونية يمكن أن تبدأ استثناء قبل الولادة فيعتبر الحمل كالمولود متي اقتضت
مصلحته ذلك. وقد استندوا علي هذه الافتراض المخالف للحقيقة والواقع للقول بأن
الجنين يعتبر وارث مات مورثه وقت الحمل ولكن بشرط أن يولد حيا.
3- الأثر الرجعي لقبول التركة الشاغرة:
كان الوارث في القانون الروماني بالخيار بين قبول التركة
أو رفضها وكانت التركة في الفترة ما بين وفاة المورث وقبول الوارث لها تسمي
بالتركة الشاغرة لأنه لا مالك لها وكان ينشأ عن مثل هذا الوضع صعوبات كثيرة من
الناحية العملية. علي أن الرومان عملوا علي تفادي هذه الصعوبات وذلك بافتراض أن
الوارث الذي قبل التركة يعتبر مالكا لها من تاريخ وفاة المورث ثم لجأ الفقيه
"جوليانوس إلي افتراض آخر مؤداه أن المورث قد ظل علي قيد الحياة حتي قبول
الوارث للتركة. ولا يخفي ما في هذا الافتراض الأخير من مخالفة للحقيقة التي تقضي
بانتهاء الشخصية القانونية للشخص بمجرد وفاته.
4- وقوع الروماني أسيرا في يد الأعداء:
كان الأسر سببا من أسباب الرق في الشرائع القديمة ومنها
القانون الروماني وقد ترتب علي تطبيق هذه القاعدة صعوبات عملية كثيرة لأن العمل
بمقتضاها يعني زوال الشخصية القانونية للروماني الذي يقع أسيرا في يد الأعداء ومن
ثم عدم انتقال تركته إلي ورثته وبطلان وصيته التي أوصي بها قبل أسره. ولكن تفاديا
لهذه الصعوبات لجأ الرومان إلي نظرية ما وراء الحدود وهي نظرية تقوم علي افتراض
مؤداه أن الروماني إذا وقع في الأسر ثم عاد بعد ذلك إلي بلده اعتبر شخصيته كأنها
لم تزل وتمتع بحقوقه كاملة كما لو كان لم يقع مطلقا في الأسر. وإذا لم يعد حتي مات
في الأسر اعتبر أنه مات طبيعيا في ذات اليوم الذي أسر فيه أي أنه مات وهو حر وبذلك
تنتقل تركته إلي ورثته ولا تبطل وصيته التي أوصي بها قبل أسره وقد وضع هذه الحيلة
قانون "كورنيليا" والصادر في عهد الكتاتور "سيلا".
الفرع الثاني: دور الحيلة في الشريعة الإسلامية
علي خلاف ما رأيناه حالا ونحن بصدد بحث دور الحيلة أو
الافتراض في القانون الروماني فإن الشريعة الإسلامية سواء في نشأتها وفي تطورها تكاد
تخلو من كل أثر للحيلة ويرجع السبب في ذلك إلي أن الشريعة الإسلامية تتميز عن
القوانين الوضعية سواء من ناحية مصادرها الرئيسية أو من ناحية طبيعية قواعدها
القانونية: فالشريعة الإسلامية تستمد أحكامها في غالب الأحوال من القرآن الكريم
والسنة النبوية الشريفة. وهذه الأحكام قد جاءت بمبادئ عامة وأصول كلية تاركة
المسائل التفصيلية إلي اجتهاد الفقهاء والقضاة ولذلك لم يضطر الناس في العقود
الأولي إلي الاستعانة بالحيلة لتعديل القواعد القانونية.
وحتي عندما اتسعت رقعة الدولة الإسلامية اتساعا عظيما
وسريعا واتصل المسلمون بحضارات لم يكن لهم بها عهد من قبل كالحضارة الفارسية في
فارس والعراق والحضارة الرومانية في مصر والشام وواجه المسلمون مسائل كثيرة في كل
شأن من شئون الحياة تحتاج إلي تشريع لم يكونوا يحتاجون إليه وهم في جزيرة العرب
نجد أن المشرعين الأولين قد لجأوا إلي استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة
التفصيلية مسترشدين بما توحي به حكمة التشريع وبما تقتضيه المحافظة علي المصالح
العامة ولم يدع أحد منهم أن القرآن الكريم والسنة الصحيحة قد نصا في المسائل
الجزئية علي كل ما كان وعلي ما هو كائن وعلي كل ما يكون.
غير أنه في خلال العصر العباسي وبعد أن تكونت المذاهب
الفقهية وتنوعت البحوث العلمية في أصول الشريعة وأحكامها بدأت الحيلة تظهر عند
أصحاب مدرسة الرأي في الكوفة كوسيلة للتوفيق بين المثل الأعلي ، والحقيقة الواقعة
وكوسيلة للتيسير في الأحكام الشرعية. وبمضي الوقت أخذ البعض يلجأ إليها للتخلص من
واجباتهم أو إسقاط حقوق الغير قبلهم مما دفع الفقهاء إلي وضع عدد كبير من المؤلفات
الخاصة بالحيل والمخارج لبيان ما يجوز استعماله منها وما لا يجوز. ونبين فيما يلي
تعريف الحيلة وأقسامها قبل أن نتحدث عن الدور الذي لعبته في الشريعة الإسلامية.
أولا: تعريف الحيلة الشرعية وبيان أقسامها:
تعددت التعريفات التي قال بها الفقهاء المسلمون للحيلة
الشرعية وإن كان أبرزها جميعا هو ذلك التعريف الذي قال به الفقيه الحنبلي
"ابن القيم الجوزيه" حيث يعرف الحيلة بأنها: "نوع مخصوص من التصرف
والعمل الذي يتحول به فاعله من حال إلي حال ثم غلب عليها بالعرف استعمالها في سلوك
الطرق الخفية التي يتوصل بها الرجل إلي حصول غرضه بحيث لا يتفطن له إلا بنوع من
الذكاء والفطنة".
وقد قسم الفقهاء الحيلة إلي عدة أقسام تختلف بحسب صورتها
والغاية التي ترمي إليها وحكمها من الناحية الشرعية:
- فهي تنقسم من حيث صورتها إلي حيلة قولية أو لفظية
وحيلة عملية.
- وتنقسم من حيث الغاية التي تهدف إليها إلي حيلة مشروعة
وحيلة محظورة.
- وتنقسم من حيث حكمها إلي حيل محرمة أو مذمومة وحيل غير
محرمة أو محمودة.
ومن الواضح أن أهم هذه التقسيمات هو الذي ينظر إلي
الحيلة من ناحية الغرض الذي ترمي إليه ولذلك نتوقف عنده قليلا لبيان المقصود منه.
1- الحيل المشروعة:
وهي الحيل التي ترمي إلي غاية مشروعة وتنقسم إلي أنواع
ثلاثة:
النوع الأول: وتكون الوسيلة فيه مشروعة وما يترتب عليها
مشروع ويقصد به استعمال الأسباب التي وضعها الشارع مفضية إلي مسبباتها مثل استعمال
البيع لنقل الملكية والإيجار للحصول علي منفعة الشيء المؤجر.
وهذا النوع من الحيل لا يختلف الفقه في صحته فهو شرع
الله وأمره ونحن نميل مع بعض الفقهاء المعاصرين إلي القول بأن هذا النوع لا يعد في
حقيقته من قبيل الحل بالمعني الذي نقصده إذ أنه لا ينطوي علي أية مخالفة للحقيقة
أو للواقع الملموس كما أنه لا يرمي إلي تعديل حكم الشرع أو إلي استبعاد تطبيقه.
النوع الثاني: وتكون الوسيلة فيه مشروعة وما يترتب عليها
مشروع إلا أن هذه الوسيلة قد وضعت لتحقيق غرض آخر غير الغرض الذي استعملت من أجله
ومثال ذلك أن يتزوج الرجل من المرأة ليعتز بأهلها أو ليستعين بمالها فيما لا يغضب
الله فمثل هذا النوع من الحيل صحيح وجائز شرعا لأنه وإن كانت الغاية الأساسية من
الزواج هي النسل والعفة عما حرم الله فإن زواج المرأة لمالها أو للاستنصار بأهلها
لا يتعارض وهذه الغاية الأساسية.
النول الثالث: وتكون الوسيلة فيه غير مشروعة ولكن الغاية
التي تترتب عليها مشروعية ومثال ذلك استعانة الدائن بشهود زور لكي يثبت حقه الذي
ينكره المدين كذبا وقد اختلف الفقهاء في شأن مثل هذا النوع من الحيل: فمنهم من
يحرمه ومنهم من يري أنه صحيح ولكن الإنسان يأثم علي الوسيلة وحدها.
2- الحيل المحظورة:
وهي ما كانت الغاية منها غير مشروعة. وتنقسم هذه الحيل
بدورها إلي نوعين:
النوع الأول: وفيه تكون الوسيلة مشروعة ولكن قصد بها
الوصول إلي محرم ومثال ذلك السفر لقطع الطريق أو للقتل والبيع للحصول علي الربا
وهبة المال قبيل تمام الحول ثم استعادته ثانية بقصد الفرار من الزكاة. مثل هذا
التحايل محرم بلا خلاف ذلك أنه وإن كانت الوسيلة مشروعة في جميع الصور السابقة:
السفر ، والبيع ، والهبة إلا أنها قد استعملت بقصد الوصول إلي أمر محرم: كقطع
الطريق أو القتل ، والربا والفرار من الزكاة.
النوع الثاني: وتكون الوسيلة في غير مشروعة وتفضي إلي
غاية غير مشروعة ومثال ذلك من يتناول المسكر ليسقط عنه فرض الصلاة والتحايل علي
حرمان الوارث من الميراث بالردة وهذا النوع من الحيل واضح الحظر والتحريم.
تلك هي أنواع الحيل المشرع منها والمحظور والواقع فإن
الباحث في المذاهب الإسلامية لا يسعه إلا أن يقرر أن الفقهاء في المذاهب الأربعة
قد استعانوا بالحيل المشروعة بالرغم مما يبدو من أن الإمامين مالك وأحمد بن حنبل
كانا يحرمان الأخذ بها بإطلاق.
ثانيا: أثر الحيلة في الفقه الإسلامي:
قلنا إنه لم يكن للحيلة دور بارز في تطوير أحكام الشريعة
الإسلامية وأن الفقهاء لم يلجأوا إليها إلا في حالات قليلة ومحدودة إما بقصد
استحداث بعض النظم التي دعت إليها ضرورة التطور في المجتمع الإسلامي وإما بقصد
تبرير بعض النظم القائمة فعلا أو تخفيف آثار بعض النظم.
وسنستعرض فيما يلي بعض صور الحيل الشرعية في الفقه
الإسلامي:
1- دور الحيل في استحداث نظم قانونية جديدة:
فقد استعملت الحيلة من جانب بعض الفقهاء كوسيلة لاستحداث
نظم قانونية جديدة منها علي سبيل المثال:
أ- بيع الوفاء:
من الثابت أن التعامل بالربا محرم في الشريعة الإسلامية
ولكن الحاجة الاقتصادية قد تدفع البعض إلي الاقتراض فلا يجد من يقرضه إذ لا فائدة
دنيوية تعود علي من عنده فضل من المال لذلك فقد تحايل البعض علي تحريم الربا بما
أسموه "بيع الوفاء" وهو عبارة عن عقد بيع يتم بين المقرض والمقترض بحيث
يكون المقترض في مركز البائع والمقرض في مركز المشتري. وبمقتضاه تنتقل ملكية الشيء
المبيع إلي المقرض في مقابل الثمن الذي يدفعه إلي المقترض ويقترن هذا البيع بشرط
فاسخ مقتضاه أن يرد المشتري (المقرض) الشيء المبيع إلي البائع (المقترض) إذا رد
إليه الثمن خلال مدة معينة. وبهذه الحيل يتمكن البائع من الحصول علي ما يحتاج إليه
من مال ويحصل المقرض علي فائدة تتمثل في الانتفاع بالشيء المبيع حتي يرد إليه
البائع الثمن وقد اختلفت آراء الفقهية حول صحة هذا العقد.
ب- بيع العينة:
كما تحايل الفقهاء علي تحريم القرض بفائدة بوسيلة أخري
تسمي "بيع العينة" وصورته أن يلجأ أحد الأفراد في سبيل الحصول علي قرض
إلي شراء شيء بثمن مؤجل ثم يبيعه ثانية إلي بائعه بثمن حال أقل من الثمن الذي
اشتراه به ويمثل الفرق بين الثمنين الفائدة التي تعود علي المقرض. وهذا النوع من
البيوع محل خلاف بين الفقهاء: فبينما يجيزه البعض مثل الإمام الشافعي وأبو يوسف
ومحمد يحرمه البعض الآخر مثل الإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل.
2- تبرير بعض النظم القانونية:
وقد استعمل الفقهاء الحيلة الشرعية أيضا كوسيلة لتبرير
بعض النظم القانونية التي لا يمكن فهمها إلا علي أساس أنها تقوم علي تصور ذهني
تحكمي مخالف للحقيقة والواقع ومن أمثلة ذلك:
أ- ملكية التركة المدينة:
من المتفق عليه بين الفقهاء أن التركة الخالية من الديون
تنتقل إلي الورثة وتثبت ملكيتها لهم من وقت وفاة مورثهم أما إذا كانت التركة مدينة
فقد ذهب جمهور الفقهاء إلي أن ملكيتها لا تنتقل إلي الورثة إلا بعد تنفيذ الوصية
إذا كان المورث قد أوصي بشيء من ماله قبل وفاته وسداد الديون التي كانت تشغل ذمته
المالية واستدلوا علي ذلك بقوله تعالي: "من بعد وصية يوصي بها أو دين":
فقد جعل الله تعالي الميراث بعد الوصية والدين ولذلك يكون وقت الميراث بعد قضاء
الدين من التركة وليس وقت وفاة المورث ومن المقرر فقها أن الحكم لا يسبق أوانه.
ولكن تطبيق هذه القاعدة قد أثار صعوبات عملية كثيرة:
فملكية المورث للتركة تنتهي بمجرد وفاته وذلك لانتهاء شخصيته القانونية بالوفاة
ومن ناحية أخري فإن ملكية هذه التركة لا تنتقل إلي الورثة إلا بعد تسديد الديون
لأنه لا تركة إلا بعد سداد الديون.والنتيجة الحتمية لذلك هي أن تصبح التركة في
الفترة ما بين الوفاة وتسديد الديون سائبة أو لا مالك لها وتفاديا لهذه الصعوبة
لجأ الفقهاء إلي حيلة شرعية مؤداها افتراض أن المورث حي وبالتالي تستمر ملكيته علي
التركة اعتبارا إلي أن تسدد ديونه.
ب- توريث الحمل:
تتفق الشريعة الإسلامية مع القانون الروماني والقوانين
الحديثة في أن الشخصية القانونية للإنسان لا تبدأ إلا منذ ولادته وتنتهي بوفاته
علي أن تطبيق هذه القاعدة من شأنه الإضرار بمصالح الجنين الذي لم يكن قد ولد قبل
وفاة مورثه. ولتفادي هذه النتيجة لجأ الفقهاء إلي الحيل الشرعية وافترضوا أن
الجنين يتمتع بالشخصية القانونية قبل ولادته وبذلك يكون له نصيب في تركة مورثه إذا
ولد حيا.
ج- ميراث المفقود:
القاعدة الشريعة الإسلامية كما هو في القوانين الحديثة
هي أن الميراث خاص بتركة المتوفي ولكن قد تحيط بالشخص ظروف معينة لا يعرف معها علي
وجه اليقين ما إذا كان حيا أو ميتا ويسمي لذلك بالمفقود فإذا انتظرنا إلي أن يتبين
بوضع هذا الشخص من الحياة أو الموت مهما طال الزمن فإن ذلك قد يضر بمصالح من لهم
الحق في ميراثه ولذلك لجأ الفقهاء إلي افتراض موته إذا مضت مدة زمنية معينة واعتبر
المفقود علي هذا النحو مورثا حكما كالميت حقيقة وبالتالي توزع أمواله علي ورثته.
2- تخفيف آثار بعض النظم:
وأخيرا فقد لجأ فقهاء الشريعة إلي الحيل الشرعية لتخفيف
الآثار المترتبة علي بعض النظم القانونية. ومن الأمثلة علي ذلك نذكر تصرفات المريض
مرض الموت: فمن المقرر في الفقه الإسلامي أن تصرفات المريض مرض الموت لا تنفذ في
حق الورثة إلا بعد إجازتهم إذا كانت صادرة لوارث أما إذا كانت صادرة لأجنبي فإنها
تكون نافذة دون حاجة لإجازة الورثة بشرط ألا تجاوز ثلث التركة.
علي أن هناك حالات تكون فيها ذمة المريض مشغولة حقيقة
بدين لأحد الورثة ولذلك اضطر الفقهاء في هذه الحالة إلي إيجاد حيلة يترتب عليها
ثبوت الحق مع عدم تعطيل النص الذي يقضي بعدم إقرار تصرفات المريض مرض الموت لأحد
الورثة إلا بإجازة بقية الورثة. وتتخذ هذه الحيلة الصورة التالية: يقرر المريض
بذلك الدين لشخص أجنبي يثق فيه ويتفق معه علي أن يقبض ذلك من ماله علي أن يدفعه
بعد ذلك إلي وارثه صاحب الدين.
الفرع الثالث: دور الحيلة الشرعية في القانون الإنجليزي
كان للحيلة دور فعال في تطور النظم القانونية في القانون
الإنجليزي القديم سواء من الناحية الشكلية أو من الناحية الموضوعية وإن كان دورها
في مجال القواعد الشكلية أوضح فعلا وأعمق أثرا منه في مجال القواعد الموضوعية. وقد
ساعد علي ذلك من ناحية طبيعة الشعب الإنجليزي المحافظة ومن ناحية أخري طبيعة
القانون الإنجليزي باعتباره قانونا غير مكتوب يعتمد بصفة أساسية علي السوابق
القضائية.
وسنعرض فيما يلي دور الحيلة في تطور القانون الإنجليزي
من الناحيتين الشكلية والموضوعية:
أولا: دور الحيلة في تطور القواعد الشكلية:
كانت السلطة القضائية عند الإنجليز موزعة بين ثلاث أنواع
من المحاكم هي: المحاكم الإقطاعية ، والمحاكم الكنسية ، والمحاكم الملكية:
فالمحاكم الإقطاعية كانت تختص بنظر المنازعات التي تثور
بين التابعين للنبيل صاحب الإقطاعية. وكانت تفصل في هذه المنازعات بطريق المبارزة
بين الخصمين وفي بعض الأحوال مثل المنازعات المتعلقة بالأراضي بحضور محلفين من
أتباع النبيل.
أما المحاكم الكنسية: فقد كان لها اختصاص واسع في
المسائل المدنية والجنائية التي يكون أحد الخصوم فيها من رجال الدين وكذلك
بالمسائل المتعلقة بعلاج الروح مثل الاعتداء علي الدين والحنث باليمين والربا
والقذف والزواج والطلاق والبنوة الشرعية .. الخ.
وكانت المحاكم الملكية تنظر فيما يعرض عليها من المسائل
المدنية والجنائية متبعة نظام المحلفين وكانت تختص إجباريا بمحاكمة كل شخص ارتكب
جريمة مخلة بأمان الملك كالقتل والسرقة بالقوة والخيانة العظمي وتطبق القانون
العام أو العادي.
وقد تمكنت المحاكم الملكية باستعمال الحيلة أو الافتراض
القانوني من توسيع اختصاصها علي حساب المحاكم الإقطاعية والمحاكم الكنسية فأصبحت
تختص بالنظر في أكثر المسائل الجنائية كما التزم المدعي عليه بالمثول أمامها في
المسائل المدنية رغم أن هذا الالتزام لم يكن له وجود من قبل وشيئا فشيئا أصبحت هي
جهة الاختصاص الوحيدة في إنجلترا وتوحدت بذلك السلطة القضائية في البلاد.
ومن أمثلة الافتراض القانوني الذي كانت تلجأ إليه
المحاكم الملكية بهدف سحب القضية من اختصاص المحاكم الأخري نذكر:
1- كانت المحاكم الملكية عندما تريد النظر في قضية مدنية
تدخل في اختصاص المحاكم الإقطاعية أو المحاكم الكنسية تفترض في إعلان الدعوي
الصادر منها أن المدعي عليه في حراسة "أمين الملك" لارتكابه جريمة تمس
"أمان الملك" وهي من الجرائم التي تختصر بها المحاكم الملكية ومتي اعتبر
كذلك وجب عليه الحضور إلي المحكمة لأنه في حكم المقبوض عليه وحينئذ تصح مطالبته
بحق مدني أمامها.
2- كذلك كانت المحاكم المختصة بنظر منازعات الضرائب تلجأ
إلي افتراض آخر إذا أرادت أن تنظر دعوي مطالبة بالدين بين شخصين: فكانت تفترض أن
المدعي مدين بالضرائب للملك ولم يتمكن من سداد المقرر عليه لمماطلة المدعي عليه في
دفع دينه وبهذا يصبح المدعي عليه كأنه مدين للملك ويلزم بالحضور إلي محكمته.
3- كما كانت المحاكم الملكية تعتدي أيضا علي اختصاص
المحاكم الإقطاعية الخاص بنظر المنازعات المتعلقة بالأراضي وذلك بأن تفترض في
الإعلان الصادر في دعاوي الأراضي الواقعة في اختصاص النبلاء الإقطاعية أن
"اللورد – أي سيد الإقطاع – تنازل عن النظر في القضية فتؤول عندئذ إلي المحاكم
الملكية للفصل فيها.
ثانيا: دور الحيلة في تطور القواعد الموضوعية:
ولم يقتصر دور الحيلة في القانون الإنجليزي علي تنظيم
القضاء وإجراءاته بل تجاوزه إلي تهذيب القواعد الموضوعية بصورة مباشرة ومن الأمثلة
علي ذلك:
1- التوسع في مفهوم الجرائم العامة:
فقد ترتب علي استعمال الحيلة لتوسيع اختصاص المحاكم
الملكية أن اتسعت دائرة الجرائم العامة بحيث لم تعد مقصورة كما كان الحال من قبل
علي جرائم الاعتداء علي الملك أو علي أحد أفراد حاشيته وإنما تشمل كثيرا من
الأفعال الضارة بالمجتمع والتي كانت المحاكم تفترض علي خلاف الحقيقة والواقع أنها
مخلة بأمان الملك.
2- إنشاء الشركة:
تنشأ الشركة في القوانين الحديثة عن طريق التعاقد وحده
أما في القوانين القديمة فقد كانت تنشأ من افتراض القرابة الدموية بين الشركاء ولا
توجد بغير هذا الافتراض ففي أيرلندا كان يطلق تعبير واحد علي الورثة في التركة
وعلي الشركاء في الشركة وكان الأمر كذلك في القانون الإنجليزي بل أنه قد بقيت إلي
عهد حديث في تشكيل بعض الشركات الإنجليزية التجارية ذات الأصل القديم آثار الصلة
المفترضة بين الأقارب حيث يضاف إلي أسماء الشركاء عبارة "المتضامنين في
الطعام والعبادة والمال".
3- الرضاع الأدبي: ويقصد به تلك الصلة الروحية التي تربط
بين المعلم وتلميذه ويقوم هذا النظام علي افتراض مؤداه أن الصلة بين المعلم
وتلاميذه في مرتبة الصلة بين الأب وأبنائه: فالمعلم يتولي حضانة الطلبة في بيته
وتثقيفهم الثقافة القانونية والأدبية العليا وفي مقابل ذلك تكون له عليهم السلطة
الأبوية التي جعلت للأب علي ولده كما قرر له القانون حق الانتفاع مدي حياته بجزء
معين مما قد يؤول من الأموال لابنه من الرضاع وهو بمثابة حق النفقة الواجب علي
الابن لأبيه. وعلي ذلك فإن الصلة بين المعلم وتلاميذه لم تكن صلة فكرية فحسب وإنما
كانت تعتبر كذلك صلة دموية كالتي تربط أعضاء الأسرة الحقيقية.
4- مصادرة أموال المجرم:
كان القانون الإنجليزي يقضي بمصادرة أموال المجرم في بعض
الجرائم كجريمة الخيانة العظمي وعلي ذلك فإن أموال هذا المجرم لا تنتقل بعد إعدامه
إلي ورثته بل تذهب للدولة, وقد برر فقهاء الإنجليز هذا المبدأ بقولهم: إن ارتكاب
المجرم لمثل هذه الجرائم يدل علي فساد في دمه العائلي يترتب عليه إيقاف سير الإرث
الشرعي ورتبوا علي هذا التبرير الذي يقوم علي مجرد تصوير خيالي للواقع حرمان الابن
البريء من جده إن كان حيا لأن السبيل الذي تعبره الأموال من الأصل إلي الفرع قد
فسد بالجريمة وانقطع مجراه.
الفرع الرابع: دور الحيلة في القوانين الحديثة
لم يعد للحيلة في القوانين الحديثة نفس الدور الذي كانت
تؤديه في القوانين القديمة. ذلك لأن الأسباب والدوافع التي أدت قديما إلي
استعمالها واللجوء إليها كوسيلة لتطوير القوانين لم يعد لها وجود في العصر الحديث.
أضف إلي ذلك أن التشريع وهو المصدر الرئيسي لمعظم القوانين المعاصرة أصبحت قواعده
مرنة وتتلاءم مع ظروف المجتمع المتغيرة لدرجة يمكن معها القول بأن كل تطور للمجتمع
في الوقت الحديث يلحق به غالبا أو يسبقه تطور في التشريع يتلاءم معه.
ومع ذلك لازالت الحيلة موجودة في ظل القوانين الحديثة
يلجأ إليها الفقه أو القضاء أو حتي المشرع في بعض الحالات المحددة وغالبا ما يكون
ذلك بقصد إيجاد تبرير لبعض النظم القانونية حتي يتسني إدراكها وفهمها علي النحو
السلم وإليك بعض تطبيقات الحيلة في القوانين الحديثة سواء في مجال القانون الخاص
أو في مجال القانون العام:
أولا: تطبيقات الحيلة في مجال القانون الخاص:
ففي مجال القانون الخاص لازالت هناك بعض التطبيقات للحيل
القانونية منها: نظام التبني الذي تنص عليه معظم القوانين الحديثة والشخصية
المعنوية أو الاعتبارية التي تتمتع بها بعض الجماعات أو الهيئات واعتبار الجنين
شخصا حيا قبل ولادته إذا مات المورث أثناء حمله حتي يكون له نصيب في تركته وتعليل
حق التوريث في بعض القوانين بأن "الوارث والميت شخص واحد وعلي ذلك يجب أن
يستمر الوارث في الاستمتاع بملك الميت. ومعظم هذه الافتراضات ورثها العصر الحاضر
من القانون الروماني.
بل إن هناك بعض القوانين أفسح فيها المشرع نفسه المجال
أمام الأفراد للتحايل علي نصوصه ومخالفة أحكامه. من ذلك مثلا ما ورد في المادة
488/1 من القانون المدني المصري الحالي من أن الهبة تكون بورقة رسمية وإلا وقعت
باطلة ما لم تتم تحت ستار عقد آخر. فالهبة بناء علي هذا النص قد تصبح بورقة عرفية
إذا وردت مثلا في صورة عقد بيع لم ينص فيه علي إعفاء المشتري من الثمن.
ثانيا: تطبيقات الحيلة في مجال القانون العام:
ولعل أهم تطبيقات الحيلة في مجال القانون العام هي تلك
النظرية التي تؤسس العلاقة بين الحكام والمحكومين علي فكرة "العقد
الاجتماعي" فهذه النظرية تفترض وجود حياة فطرية تسبق قيام الجماعة وأن
الانتقال من حياة الفطرة إلي حياة الجماعة قد تم بناء علي عقد اجتماعي بين الأفراد
بقصد إقامة السلطة الحاكمة. ومن أهم الفلاسفة الذين نادوا بهذه النظرية هوبز جون
لوك وجان جاك روسو: ونقطة البداية عند "هوبز" هي أن حالة الفطرة التي
كان يعيش فيها الإنسان البدائي كانت تقوم علي الفوضي وسيطرة الأقوياء مما اضطر
الإنسان إلي الاتفاق مع غيره من أفراد الجماعة علي أن يعيشوا معاً تحت سلطة واحد
منهم ينزلون له عن كل حقوقهم الطبيعية ويكلون إليه السهر علي مصالحهم وصيانة
أرواحهم. وقد تم هذا النزول من جانب واحد بمعني أن الأفراد قد اتفقوا فيما بينهم
علي اختيار ذلك الرئيس الأعلي دون أن يكون هذا الأخير طرفاً في العقد ودون أن
يرتبط من ناحيته بشيء. ويقرر هوبز أنه مادام الأمر كذلك فإن الرئيس الأعلي يكون
سلطانه مطلقاً لا حدود له ومهما أتي من تصرفات أو أفعال فلن يحق للأفراد أن يثوروا
عليه أو أن يخالفوا أمره وإلا عدوا خارجين علي الميثاق ناكثين بالعهد الذي ارتبطوا
به فيما بينهم.
وقد هدف "هوبز" بهذه النظرية إلي تأييد حكم أل
ستيورات في إنجلترا ودحض ادعاءات البرلمان ضدهم. أما جون لوك فإنه وإن اتفق مع
هوبز في القول بوجود حياة فطرية تسبق حياة الجماعة وأن المجتمع السياسي يقوم علي
أساس عقد اجتماعي انتقل به الأفراد من الحياة البدائية إلي حياة الجماعة إلا أنه
يختلف معه في نقطة جوهرية وهي أن الأفراد عندما يختارون الحاكم فإنهم يجعلون طرفا
في التعاقد ومن ثم لن يكون الحاكم في نظر لوك أجنبيا عن العقد سيلتزم قبل الأفراد
بالتزامات معينة كما أن الأفراد لم ينزلوا في هذا العقد عن كل حقوقهم وإنما نزلوا
فقد عن القدر لإقامة السلطة والمحافظة علي حقوق الجميع. فالعقد بين الحاكم
والمحكمومين لا ينهض إذن مبررا لإقامة سلطان مطلق بل علي العكس يفرض علي كل منهما
التزامات متبادلة ويعيه للحاكم رسالة محددة بأغراض الجماعة في الحماية والأمن
والمحافظة علي الحقوق لا في العبودية والاستبداد.
ويتفق جان جاك روسو مع هوبز ولوك ودعاة القانون الطبيعي
في الاعتراف بوجود حياة الفطرة التي تسودها الحرية والمساواة والاستقلال عن كل
سلطة وفي أن الانتقال إلي حياة الفطرة التي تسودها الحرية والمساواة والاستقلال عن
كل سلطة وفي أن الانتقال إلي حياة الجماعة قد تم بناء علي عقد اجتماعي إلا أن
"روسو" يقدر أن طرفي هذا العقد هما الأفراد الطبيعيون من ناحية ومجموع
الأفراد أعضاء الجماعة السياسية من ناحية أخري وبعبارة أخري فإن روسو يتخيل
الجماعة السياسية كما لو كانت قد تكونت بالفعل ويدخلها طرفا في العقد والأفراد
الطبيعيين طرفا آخر. وبمقتضي هذا العقد فإن الأفراد ينزلون كلية ودون تحفظ عن جميع
حقوقهم للمجموع. علي أن النزول لا يفقد الأفراد حرياتهم وحقوقهم نهائيا لأنهم
سيستعيضون عن حرياتهم وحقوقهم الطبيعية التي نزلوا عنها بحريات وحقوق مدنية تقررها
لهم الجماعة المدنية التي أقاموها بل إن وجود هذه الحقوق والحريات المدنية لأنها
ما قامت إلا لحمايتها.
تلكم هي نظرية "العقد الاجتماعي" كما تصورها
كبار الفلاسفة. ومن الواضح أن هذه النظرية تقوم علي محض افتراض لا أساس له في
الحقيقة أو الواقع: ذلك أن التاريخ لا يعطينا مثالا واحدا لدولة نشأت عن طريق
العقد. ومع ذلك فقد لجأ الفلاسفة إلي هذا الافتراض الذي يقوم علي تصور ذهني مخالف
للواقع بهدف إيجاد تبرير للعلاقة التي تربط بين الحكام والمحكومين ورسم إطار ونطاق
الحقوق والحريات العامة للأفراد.
المبحث الثاني: مبادئ العدالة
من الصعوبة بمكان العثور علي تعريف محكم جامع مانع لفكرة
تبلغ من التجريد والعمومية مثل ما تبلغه فكرة العدالة ومع ذلك يمكن القول بأنها:
"شعور كامن في النفس يوحي به الضمير الإنساني المستنير ويكشف عنه العقل
السليم والنظر الصائب ويهدف إلي تحقيق المساواة بين الحالات المتماثلة مع مراعاة
ظروفها وملابساتها".
والعدالة بهذا المعني تختلف عن العدل الذي يتمثل في
"حمل النفس علي إيتاء كل ذي حق حقه والتزام ذلك علي وجه الثبات والاستمرار.
والأصل أن تكون القواعد القانونية مطابقة للعدالة ومع
ذلك نجد كثيرا مع القواعد القانونية غير معبرة عن العدالة ويحدث هذا بسبب عوامل
كثيرة: فقد تضع القانون طائفة لها مصالح معينة فيظهر القانون مرجحا لهذه المصالح
ومجحفا بمصالح الطوائف الأخري وقد يوضع القانون في ظروف معينة ثم تتغير هذه الظروف
بحيث يكون أتباع القانون في هذه الحالة غير محقق للمصالح المستهدفة منه ومن ثم
يتعذر تحقيق المساواة بين الحالات المتماثلة.
وقد تكون صياغة القانون ذاتها بعمومها وتجريدها هي سبب
ابتعاد القاعدة القانونية عن العدالة: فتحديد سن الرشد بإحدي وعشرين سنة مثلا أمر
يتعارض مع العدالة بالنسبة للكثيرين ممن بلغوا رشدهم قبل هذه السن أو لم يرشدوا
رغم وصولهم لهذا السن.
وقد لعبت فكرة العدالة دورا بارزا في تعديل الشرائع
وتطورها لدي الأمم المتطورة وهي لذلك لا تقل في أهميتها عن الافتراض القانوني
والتشريع.
غير أن العدالة تختلف عن الحيلة القانونية في أنها أي
العدالة تتدخل في تطبيق القانون بصورة مباشرة وتعدل في أحكامه صراحة أما الحيل فإنها
تصل بصورة مستورة غير مباشرة إلي تغيير القانون في معانيه مع احترام نصوصه ظاهرا
أضف إلي ذلك أن العدالة قد ظهرت في دور لاحق للدول الذي نشأت فيه فكرة الحيلة أو
الافتراض القانوني وهو الدور الذي ضعفت فيه القدسية التي كانت تتمتع بها النصوص
والتقاليد القانونية قديما وتمكن فيه الناس من مخالفتها صراحة متي ظهرت لهم معالم
الشدة والظلم في أحكامها بعد أن كانوا يحتالون علي نتائجها عن طريق الافتراض وعلي
ذلك فإن العدالة قد ظهرت في عهد لاحق لظهور الحيلة.
وتتفق العدالة مع التشريع في أن كليهما وسيلة مباشرة من
وسائل تعديل القوانين ولكنها تتميز عنه في أن قوتها لا تستند إلي هيئة حاكمة أو
سلطة تشريعية وإنما تستند إلي طبيعة مبادئها وإلي سلامتها من حيث اتفاقها مع العقل
والعدل والأخلاق.
وقد شغل موضوع العدالة منذ القديم ذهن الحكماء والفلاسفة
خاصة بعد أن قطع الإنسان شوطا كبيرا صوب المدنية والحضارة وتخطي تلك المرحلة
الفطرية التي لم يكن للعدالة فيها من أساس خلقي بل كانت قائمة علي المصلحة المادية
المعززة بالقوة. وكان فلاسفة الإغريق هم أول من تعرض لبحث فكرة العدالة في محاولة
للوصول إلي تحديد مضمونها والأساس الذي تقوم عليه و العلاقة بينها وبين القوانين
الوضعية المطبقة في الدولة. فهم الذين طرحوا هذا السؤال العميق: هل الشيء الذي
يعتبره القانون الوضعي عادلا عادل بالطبيعة؟ وصحيح أن إجابتهم علي هذا السؤال قد
تشعبت واتخذت مذاهب شتي بيد أن ما هو أهم من إجابتهم عليه هو طرح السؤال نفسه
وتقديمه كمشكلة ظل الفلاسفة من بعدهم يحاولون الإجابة عليه.
وعلي ذلك فإنه يجدر بنا قبل البحث عن أثر العدالة في
تطور الشرائع القانونية أن نرجع إلي المنابت الأولي حيث طرحت فكرة العدالة علي
مائدة البحث الفلسفي والتأمل الفكري لكي نري كيف ناقش فلاسفة الإغريق قضية العدالة
خاصة وأن هذه الفلسفة الإغريقية لم يتوقف أثرها عند حدود بلاد اليونان القديمة
وإنما عبرت الحدود وتخطت حواجز الزمان والمكان لكي تترك بصماتها واضحة براقة علي
الفلسفة الإنسانية في كل زمان وفي كل مكان.
المطلب الأول: فلسفة العدالة عند الإغريق
كيف بزغت فكرة العدالة عند الإغريق؟ وكيف تناولها كبار
الفلاسفة أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو؟
الفرع الأول: بزوغ فكرة العدالة
إذا رجعنا إلي بداية ما كتب في الماضي البعيد عن شعر
الإغريق فإننا نجد عند أصحابه ما نستطيع وصفه "بحاسة العدل" وإن كنا
لديهم مذهبا فلسفيا كاملا أو علي الأقل اتجاها فكريا خاصا بموضوع العدالة.
فقد أبرز "هوميروس" في القرن التاسع قبل
الميلاد أهمية القانون باعتبارهما أساسا ضروريا لكل تنظيم سياسي وتحدث عن الرجل
العادل الذي يعطي كل ذي حق حقه. وهو يقصد بالعدل "القاعدة العامة المطابقة
لإرادة الآلهة والتي توحي بها إلي الناس".
وفي القرن الثامن قبل الميلاد ظهرت عند
"هزيود" فكرة "الشريعة أو الناموس" وكان يعني بها ما تشرعه
الآلهة ويري أن إطاعة هذه الشريعة خاصة من خواص البشر تميزهم وتسمو بهم فوق سائر
أنواع الحيوان التي تحكمها "شريعة الغابة". ذلك الشيء الإلهي الذي يضع
الإنسان فوق مستوي الحيوان.
وقد انطلق الفكر الإغريقي منذ أيام طاليس (حوالي 585
ق.م) ببحث المشاكل المادية التي يثيرها العالم الطبيعي فقد حير الفلاسفة من أمر
هذا العالم أنه يبدو مكونا من عناصر كثيرة ولكنه عرضة للتغيير لأن كل عنصر من
عناصره يميل إلي عنصر آخر ولهذا فقد حاولوا البحث عن الجوهر الفرد وهو المادة
الأصلية الوحيدة التي كانت أساسا للعناصر كلها وانتهي بهم الأمر إلي إطلاق اسم
"الطبيعة" علي ذلك الجوهر الأصلي الواحد الذي اشتقت منه جميع الأشياء.
ولم تكن النتائج التي توصل إليها هؤلاء الفلاسفة فيما
يختص التي توصل إليها هؤلاء الفلاسفة فيما يختص بالمادة مجرد نظريات لعلماء
الفيزياء بل كانت في حقيقة الأمر حلولا للغز هذا العالم تنطبق علي حياة الإنسان
بقدر انطباقها علي حياة الأرض كما أن النتائج الخاصة بعناصر الطبيعة المادية
والعلاقات المتبادلة بين هذه العناصر كانت تتضمن نتائج مماثلة من عناصر الطبيعة
الأخلاقية للإنسان وما بينها من صلة وعن العناصر المكونة للدولة والكيفية التي تم
بها اتحادها.
وكان "الفيثاغوريون" في القرن الخامس قبل
الميلاد هم أول من طبق الحقائق الطبيعية التي توصلوا إليها علي الحقائق الأخلاقية
عندما حولوا نظرية فيثاغورس إلي نظام فلسفي.
ومبني النظرية الفيثاغورسية هو أن العدد فحوي كل شيء وأن
مبادئ الأعداد هي مبادئ الأشياء كافة. ومن ثم فإن الوحدة التي حولوا إليها العناصر
الطبيعية لم تكن شيئا ماديا كما ادعي ذلك أغلب الفلاسفة الإيونيين بل كانت نظرية
العدد غير المادية. وقد مهد هذا المفهوم الرياضي أمام أنصار هذه المدرسة الطريق
إلي تطبيق نظريتهم علي العالم الأخلاقي هو أيضا مبدأ العدد أو بعبارة أخري القاعدة
العددية. ومن هنا بدت العدالة في نظرهم علاقة حسابية فهي عدد من الأعداد مضروب في
نفسه. وقد اختاروا لذلك عدد أربعة لأنه يساوي 2×2 أي أنه عدد مربع. والعدد المربع
يشكل انسجاما كاملا لأنه يتكون من أجزاء متساوية عددها يساوي القيمة العددية لكل
جزء علي حدة. فإذا عرفت العدالة بأنها عدد مربع ترتب علي ذلك أنها تقوم علي فكرة
أن الدولة تتكون من أجزاء متساوية: وكما أن العدد يظل مربعا طالما بقي التساوي بين
أجزائه كذلك تظل الدولة عادلة طالما تميزت بالمساواة بين أجزائها والعدالة ما هي
إلا المحافظة علي هذه المساواة.
والسؤال هنا هو كيف يمكن المحافظة علي هذه المساواة؟
والجواب علي هذا كما يقول الفيثاغورثيين هو أننا نستطيع ذلك بأن نأخذ من المعتدي الذي
زاد نفسه ضخامة بأن جعل ضحيته تزداد ضآلة كل ما ربحه من هذا الاعتداء ونعيده كاملا
إلي صاحبه الذي خسره. ومن هنا جاء التعريف الآخر الذي عرف به الفيثاغورثيون
العدالة بأنها "مقابلة المثل بالمثل". ونجد في هذا التعريف البذور
الأولي لبعض العناصر التي كان لها أثرها في الفكر الفلسفي بعد ذلك فمن هذا التعريف
تنبثق فكرة أن الدولة هي مجموع أعداد متساوية كما تنبثق منه أيضا فكرة أن هدف
الدولة هو تحقيق الانسجام أو التوازن الذي يطلق عليه اسم "العدالة" وهو
الذي يحافظ علي الاتساق بين الأعضاء وفي "الجمهورية" يأخذ أفلاطون كما
سنري فيما بعد بهذه الفكرة عن العدالة ويقرر أنه إذا اقتصرت كل من الطوائف الثلاث
في الدولة: الحكام والمحاربين والصناع علي مجالها الخاص وتولت كل منها العمل الذي
يلائمها تحققت العدالة وصارت الدولة عادلة أما التعدي علي وظائف الغير والخلط بين
الطبقات الثلاث فإنه يعد ظلما ويجبر علي الدولة أوخم العواقب وعلي ذلك فالعدالة في
رأيه هي عملية تنسيق ولكنه تنسيق يعطي لكل من الأجزاء المكونة للدولة مكانه
الحقيقي الملائم وفي نظرية أرسطو عن العدالة " الخاصة نستطيع أيضا أن نقف بكل
وضوح علي أثر التعريف الفيثاغورثي للعدالة: فنظرية أن العدالة هي تصحيح الأوضاع
وإعطاء كل إنسان حقه قد يعود الفضل فيها بعض الشيء إلي التعاليم الفيثاغورثية.
الفرع الثاني: السفسطائيون والمفهوم النسبي للعدالة
كان السفسطائون أصحاب الفضل الأول في التعرض لمناقشة
الأساس الطبيعي للعدالة ومدي ارتباطها بالفضائل الأخري. فهم الذين هيجوا الأفكار
للبحث والمناقشة في أساس الأخلاق ومهدوا بذلك الطريق لتعاليم من أتي بعدهم من
الفلاسفة أمثال سقراط وأفلاطون.
ولم يكن للسفسطائيين في الواقع مدرسة فلسفية متكاملة
وإنما كانوا تجمعا لعدد من المفكرين والخطباء والفصحاء الذين شاركوا في مناقشة
قضايا الفكر والفلسفة المطروحة. وهم وإن تشابهوا في كثير من السمات إلا أنهم كانوا
يختلفون فيما بينهم أحيانا. بيد أن الإطار الذي يحيط بأفكارهم جميعا هو الفهم
المادي للطبيعة: فقد رفضوا الدين وقدموا تفسيرا عقليا للظواهر الطبيعية ودعموا
فكرة نسبية الأخلاقيات وكان السفسطائيون فردين ذاتيين: فقد ذهبوا إلي أن الإنسان
مقياس كل شيء وأن المعرفة وليدة الحواس والقوي الإنسانية الأخري فهي بالتالي عمل
إنساني بحت فإذا كان لكل إنسان طريقته في رؤية الأشياء ومعرفتها فلا يمكن أن يوجد
علم موضوعي له طابع عام أو عالمي ولا يمكن أن يكون هناك قانوني خارجي أخلاقي عام
يخضع له الناس جميعا. فالمسألة ترجع إلي إحساس الشخص نفسه ومن ثم فإن ما يظهر
للشخص أنه حق فحق بالنسبة إليه وحده ولا يوجد خير مطلق كما أن الأخلاق مجرد
اعتبارات شخصية. وقد عبر "بروتاجوراس" عن هذه الفلسفة في بلاغة رائعة حيث
قال إن "الإنسان مقياس الأشياء جميعا هو مقياس وجود ما يوجد منها ومقياس لا
وجود مالا يوجد".
ولقد طبقوا هذه التعاليم علي نظريتهم في القانون ولعدالة
فقالوا إنه ليس هناك قانون عام مؤسس علي العدالة أو نحو ذلك لأنه ليس هناك عدالة
عامة بالمعني الذي يفهمه الناس وليس هناك قانون عادل في نفسه بل علي العكس فإن
القانون الملزم كما يقول أنتيفون شيء يتعارض مع القانون الطبيعي لأن قواعده قد أتت
عرضا ولا تقوم إلا علي العقد والعهد فهي وليدة الرأي وليست وليدة الحقيقة.
والعقوبات التي يفرضها القانون هي في واقع الأمر جزاءات أشار بها رأي إنسان ويتجنب
المرء هذه الجزاءات إذا أمكنه تجنب الوقوف أمام قضاء ذلك الرأي. وطاعة القانون خطأ
بوجه عام لأن القوانين غالبا ما تناقض الطبيعة التي تعتبر مقياسا للصواب. والطبيعة
في نظر "أنتيفون" هي ببساطة الأنانية وحب المصلحة الذاتية: فمن يتبع
الطبيعة يبذل لصالح نفسه دائما غاية الجهد المستطاع فإذا ترجمنا هذه الفلسفة
العقلية إلي نطاق الأخلاق أصبح من الجلي أن المبدأ الذي يحكم الأخلاق عند أنتيفون
هو الفردية المجردة أو المتطرفة التي تجعل كل فرد مقياسا وقاعدة لما يعتبر صوابا.
ويذهب "كاليكليس" إلي فكرة مشابهة حيث يقول إن
العدالة الطبيعية هي حق الرجل القوي. وإن العدالة القانونية هي ذلك الحاجز الذي
تقيمه جماعات الضعفاء لحماية أنفسهم أو بنص عبارته: "لو وجد رجل لديه القوة
الكافية لداس بقدميه كل تعاليمنا وتعاويذنا وتمائمنا وكل قوانينا التي تتعارض مع
الطبيعة فالقانون لا يخلق إلا مستوي أخلاقيا يناسب الأرقاء والأخلاق التي من هذا
النوع لا يمكن أن تكون أخلاقا سليمة أن الطبيعة والقانون متناقضان والطبيعة هي
القاعدة السليمة للحياة الإنسانية.
وإذا أمعنا النظر في هذا القبول فإننا نجد أن الأخلاق
والحق يتضمنان استخدام القوة إلي أبعد حدودها بقصد التمتع باللذة التي يمكن
اكتسابها منها وبقدر أكبر مما يستطيع الضعفاء الحصول عليه. وعلي هذا تكون عدم
المساواة هي القاعدة الطبيعية وتكون القوة هي الفضيلة العليا والرغبة العليا التي
يرغب بها الإنسان أما الأخلاق فهي من اختراع الضعفاء لتقييد وكبح جماح الأقوياء.
ويقترب من هذا القول ما ذهب إليه السفسطائي
"تراسيما خوس" حيث يقرر أن العدالة ليست إلا صالح الأقوي. وتفصيل ذلك
عنده أن أنواع الحكم تتباين فمنها حكم الطاغية ومنها الديمقراطي ومنها
الأرستقراطي. وأن القوة في كل بلد إنما تستقر في الطبقة الحاكمة ومن هنا فإن شرائع
كل حكومة مصوغة في قالب يضمن فائدتها: فالديمقراطية تضع قوانين ديمقراطية والملكية
تجعلها ملكية وهكذا الحال في الأنواع الأخري. وبعد سن هذه القوانين تعلن الحكومات
أن ما هو مشروع وعادل بالنسبة إلي رعاياها إنما هو ما فيه صالحها هي ذاتها وتعاقب من
يخالف ذلك علي أنه خارج عن القانون والعدالة. وعلي ذلك إن للعدالة في جميع الدول
معني واحدا هو صالح الحكم القائم. ولما كان المفروض ضرورة هو أن الحكومة هي الأقوي
فإن النتيجة الوحيدة المعقولة هي أن مبدأ العدالة واحد في كل شيء وهو صالح الأقوي.
ويرفض "تراسيماخوس" التسليم بأن الحاكم أيا
كان نوع الحكم الذي يمارسه إنما يستهدف دائما صالح رعيته أو كمال فنه إذ من الوهم
أن نتصور أن الراعي يرعي غنمه وماشيته ويسمنها دون أن يكون له في ذلك من غاية سوي
ما فيه خيرها. وبالمثل فإنه من الوهم أن نتصور أن الذين يحكمون الدول لا ينظرون
إلي رعاياهم علي أنهم أغنام أبدا وأنهم يسهرون عليها آناء الليل وأطراف النهار
لغير أرباحهم ومنافعهم الشخصية.
إنه إذا تصورنا ذلك لكنا في أقصي البعد عن مواطن الصواب
وعن إدراك جوهر العدل والظلم: فالحقيقة الواضحة هي أن العدالة إنما هي لمصلحة
الغير أي لمصلحة الحاكم والأقوي علي حساب الرعية التي ينبغي أن تطيع وأن تقوم بما
يكفل نفعه وأن تتوخي في أعمالها سعادته التي هي أبعد ما تكون عن سعادتها الخاصة.
تعقيب علي آراء السفسطائيين في العدالة:
ومن عرضنا السابق لآراء السفسطائيين في قضية العدالة
يبدو جليا أن المحور الرئيسي الذي تدور حوله هذه الآراء ينبثق من فكرة التعارض بين
القانون والطبيعة: فالطبيعة كما تتجلي في البشر هي الأنانية وحب المصلحة الذاتية
والرغبة في المتعة والسلطان ومن هنا فإن عدم المساواة وسيطرة الأقوياء هي أشياء
يمليها القانون الطبيعي.
وهذه التعاليم كما نري تعاليم هدامة لكل نظام اجتماعي
للدين للأخلاق لكل نظم الدولة ولذلك فقد كان السفسطائيون مثارا لسخط من أتي بعدهم
من الفلاسفة وموضعا لانتقادهم وهدم تعاليمهم.
وفي الواقع فإن ثمة حقائق تاريخية وراء هذه الآراء تعتبر
ضرورية لتفسيرها: ذلك أن فلسفة القوة كما ظهرت في اليونان تبدو وكأنها كانت قائمة
إلي حد كبير علي الحقائق السياسية ولا سيما الحقائق السياسية للإمبراطورية
الأثينية: فمدينة أثينا بوصف أنها كانت رأس تلك الإمبراطورية كان ينظر إلهيا علي
أنها طاغية تستخدم قوتها في فرض إرادتها ومصلحتها علي كل أجزاء الإمبراطورية كما
لو كانت إرادتها ومصلحتها هي القانون الحق. وعلي ذلك فإن السفسطائيون في تناولهم
لقضية العدالة وتعريفهم لها بأنها "مصلحة الأقوي" لم يفعلوا أكثر من
صياغة الأوضاع السائدة في اليونان في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد صياغة
فلسفية. وبعبارة أخري فإن الفلسفة السفسطائية في هذا الصدد يجب أن تقدم علي أنها
تعبير عما هو كائن لا عما ينبغي أن يكون. فهي فلسفة تصف الأمر الواقع وهو أن كل
حكم قائم بالفعل إنما يعبر عن صالح الفئة القوية في المجتمع وهو وصف لا يستطيع
المرء أن ينكر أنه دقيق حقا: فلا أحد ينكر أن الحكومات القائمة فعلا تعبر عن مصالح
فئة معينة من المحكومين وهي فئة الأقوياء.
وفضلا عن ذلك فإن أحدا لا ينكر أن الفلسفة السفسطائية
بما تحتوي عليه من واقعية قد تركت بصماتها واضحة علي كثير من المذاهب السياسية
الحديثة ويرجع إليهم الفضل في ذلك التطور العظيم الخصيب في الفلسفة الذي شهدته
اليونان إبان القرن الخامس قبل الميلاد: فهم الذين وجهوا الاهتمام إلي الطبيعة
والفكر الإنساني بعد أن كان موجها إلي عالم الأشياء أو العالم المادي وحرروا الفكر
من عقائد الدين الجامدة وساهموا مساهمة فعالة في وضع المسائل السياسية والفلسفية
علي مائدة التأمل الفكري والبحث الفلسفي وكان الكثيرون منهم علي جانب كبير من
الإدراك. وربما يغفر لهم فيما ذهبوا إليه من نسبية الأخلاق وما تؤدي إليه من أن
قيم الأشياء في نظر أي إنسان هي كما تبدو له تلك الظروف التي عاشت فيها اليونان
عامة ومدينة أثينا بصفة خاصة خلال هذه الفترة.
الفرع الثالث: سقراط والربط بين العدالة والقانون
انتقد سقراط قول السفسطائيين بأن الطبيعة الإنسانية شهوة
وهوي وأن القوانين إنما وضعها المشرع لقهر الطبيعة وأنها متغيرة بتغير العرف
والظروف من ثم فهي نسبية وغير واجبة الاحترام لذاتها فقال إن إطاعة قوانين الدولة
واجب في كل الأحوال وأن الإنسان العادل هو من يعرف القوانين التي يجب عليه
مراعاتها في سلوكه تجاه الآخرين.
وفي الواقع فإن سقراط لم يدون آراءه كتابة وإنما نقلها
إلينا المعجبون به من تلاميذه وبخاصة أفلاطون.
وكان أسلوب سقراط في المناقشة أسلوبا متميزا: فهو يعرض
العديد من الأسئلة ويستخلص من إجاباتها نتائج بسيطة. وكان علي عكس السفسطائيين
يؤكد أنه لا يعرف شيئا بينما كانوا هم يزعمون معرفة كل شيء ولذلك كان ينظر إليهم
بتهكم ويستجوبهم في الأمور التي تبدو بسيطة في مظرهها صعبة في جوهرها ويوقعهم في
التناقض والخطأ.
ونقطة البداية في نظرية سقراط هي أنه لكي يكون الإنسان
عادلا يجب عليه أن يمتنع عن ممارسة الظلم وأن يكون امتناعه هذا نابعا عن إرادة
حقيقية. ولكي تتوافر لديه هذه الإرادة يجب أن يعلم أولا ما هو الأفضل وتحديد
الأفضل في العلاقات المتبادلة بين الأفراد هو ما نسميه "القانون". وعلي
ذلك فإن ما يطابق القانون يكون عادلا إذ أن المشرع العادل شيء واحد وبعبارة أخري
فإن العدالة هي ما تقرره القوانين.
ولكن ماذا يعي سقراط بكلمة "القانون" في هذا
الصدد؟ هل يقصد بها القوانين غير المكتوبة "القانون الطبيعي" التي
نقشتها الآلهة علي قلوب البشر أم يقصد بها القوانين الملزمة في الدولة؟ وإذا كان
المقصود هو القوانين الملزمة في الدولة؟ وإذا كان المقصود هو القوانين الملزمة فهل
يعني بها مجموعة العادات والتقاليد السائدة في المجتمع أم يقتصر معناها علي
التشريعات التي تصدرها الدولة؟ في الواقع فإن كلمة "القانون" يتسع
معناها في نظر سقراط بحيث يشمل جميع قواعد السلوك التي تنظم حياة الفرد في المجتمع
سواء كان مصدرها العقل أو العرف والتشريع أو الأخلاق أو الدين.
والحق أن سقراط عندما تناول قضية العدالة علي هذا النحو
لم يكن يعبر عن وجهة نظر فلسفية محضة فقد كان هو نفسه أولا وقبل كل شيء مواطنا
ممتازا دائم الاستعداد للانصياع للقوانين سواء أكان المطلوب منه أن يحافظ علي
موقعه في معركة "بوتيديوم" أم يناضل في مجلس الشيوخ الذي وقعت عليه
القرعة لدخوله ضد الغزوات اللامشروعة للطاغية "أقرينياس" أم أخيرا يرفض
احتراما منه لقوانين بلاده ما اقترحه عليه "أقريطون" من فرار للنجاة
بنفسه من الموت بعد صدور الحكم بإدانته وإعدامه.
ولكن لماذا يجب علي المواطن في كل الأحوال أن يحترم
قوانين الدولة؟ ذلك لأن القوانين كما يقول سقراط إنما أريد بها تحقيق الصالح
العام. والمواطن برضائه العيش في الدولة بعد أن عرف قوانينها ولم يعترض عليها يكون
بذلك قد "تعاقد ضمنا" وقطع علي نفسه عهدا أنه سيطيع هذه القوانين ويصدع
بما تأمره به وعلي ذلك فإن صفة الإلزام في القوانين لا يجب البحث عنها في الإكراه
الذي تفرضه قوة عليا خارجة عن الجماعة أو في الإكراه الذي تمارسه الدولة وإنما في
القبول الضمني لهذه القواعد.
زبدة القول إذن هي أن العدالة في نظر سقراط تندمج مع
القانون: فالعادل والمشروع شيء واحد والعدالة هي ما تقرره القوانين ومن ثم فإن
الإنسان العادل هو الذي يراعي قوانين الدولة في جميع تصرفاته وأفعاله.
ولكن هل لنا أن نسلم مع سقراط بهذه النتيجة؟ في الواقع
فإن رأي سقراط في قضية العدالة قد أماط لنا اللثام عن ولع سقراط بل وتفانيه في
احترام قوانين بلاده فهو إذن تعبير عن حكمه شخصية أكثر منه تعبير عن رأي أو نظرية
فلسفية. ذلك أننا لو نظرنا إلي كل من العدالة والقانون لوجدنا أن التلازم بينهما
ليس حتميا إذ كثيرا ما يبتعد القانون عن العدالة فلا يكون محققا لها أو معبرا
عنها.
الفرع الرابع: أفلاطون "العدالة في الدولة والعدالة
في الفرد"
يعتبر أفلاطون مؤسس الفلسفة المثالية الموضوعية وقد
التقي بأستاذه الفيلسوف الكبير سقراط عام 407 ق.م وبقي في صحبته إلي أن كاد لسقراط
أعداؤه وحوكم ثم أعدم سنة 399 ق.م.
وقد ألف أفلاطون كتبا كثيرا عرض فيها آراءه ونظرياته.
ولا يعنينا منها في هذا المقام سوي كتابه "الجمهورية" الذي يعتبر أهم
كتب أفلاطون جميعا وقد كتبه في شكل "محاورات" بين أستاذه سقراط وبين
السفسطائيين والحوار يبدأ بوضع مشكلة العدل موضع البحث محاولة الوصول في شأنها إلي
حل.
فقد بدأ أفلاطون في بحثه لقضية العدالة من تساؤل بسيط
علي لسان سقراط عن ماهية العدالة وانتهي منه إلي بناء دولة مثالية تحقق العدالة
المطلقة كما تخيلها فالعدالة في نظره لا تبدو مجرد تقيد من قبل الفرد بقوانين
بلاده وإنما هي بالأحري مطلب إصلاح سياسي شامل بريادة الفلاسفة وابتداء من هذه
النقطة يطلق العنان لفكرة السياسي فيستتبع به علم الأخلاق وعلم النفس معا.
وينطلق أفلاطون في تحديده لماهية العدالة بعقد الموازنة
بين الدولة والفرد ولا تعني كلمة موازنة هنا أن الدولة والفرد شيئان منفصلان يمكن
التفكير في كل منهما علي حدة ويمكن مقارنة كل منهما بالآخر. فالواقع أنهما ليسا
كذلك ومن المستحيل التفرقة بين وعي الفرد ووعي الدولة لأن وعي الدولة هو بعينه وعي
أعضائها عندما يفكرون بوصف كونهم أعضاء في الدولة.
وإذا كان الأمر كذلك فلماذا بدأ أفلاطون إذن بدراسة
النفس وهي تعمل في نطاقها الاجتماعي أولا إنه يفعل ذلك لأن النفس الإنسانية وهي
تعمل في نطاقها الاجتماعي تكون أكثر وضوحا ولأن العمل الخارجي الذي يترتب عليها
يكون شيئا أكبر وأكثر جلاء: "فهب أن شخصا قصير النظر طلب إليه أن يقرأ حروفا
صغيرة عن بعد ثم أنبأه شخص آخر بأن من الممكن الاهتداء إلي نفس هذه الحروف في مكان
آخر بحجم أكبر فلا شك في أنها تكون فرصة رائعة له لكي يبدأ بقراءة الحروف الكبيرة
وينتقل منها إلي الصغيرة ليري إن كانت مماثلة للأولي أم لا". وبتطبيق هذا المثال
المستمد من عالم الحس علي فكرة العدالة يقرر أفلاطون أن العدالة إن كانت توجد في
الفرد بوصفها فضيلة له فإنها توجد أيضا في الدولة. والدولة أكبر من الفرد إذن ففي
الصورة الكبيرة للعدالة يكون من الأسهل علينا إدراكها لذا فإنه يبدأ بالبحث عن
طبيعة العدالة أولا كما تتبدي في الدولة ثم ينتقل بعد ذلك إلي بحثها في الفرد أي
أنه ينتقل من الأكبر إلي الأصغر ثم ينتهي بعقد المقارنة بين الاثنين.
شكرا يامستشار
ردحذف